من بين المهندسين المعماريين اللبنانيين، يظل المهندس رهيف فياض (1936)، الأكثر نشاطاً في الكتابة عن ثقافة العمارة ونبض المدينة (بيروت تحديداً) وروحها ولغتها وتحولاتها واغترابها، والحيز المكاني والعمراني، من وسط بيروت/"سوليدير" إلى حرج بيروت وصولاً إلى "الضاحية".وفياض الكوراني (نسبة إلى الكورة)، اليساري و"الشيوعي العتيق" والمنظّر والشهير بمقالاته النقدية لمشروع "سوليدير" وثقافة العولمة والتغريب وصاحب كتاب "العمارة الغانية..."، درس الهندسة المعمارية في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة العام 1963، وبين العامين 1957–1967، كان طالباً متمرّناً، في محترفات المعماريين: شارل شاير، واثق أديب، جورج ريّس، موريس هندية، كاظم كنعان، انطوان ثابت. وبين العامين 1970 و2004، مارس مهنة التصميم والإشراف، في إطار "الدراسات المعمارية والمدينية" و"المؤسسة العربية للتصميم والدراسات"، وأنجز مشاريع في: لبنان، اليمن، العراق، المملكة العربية السعودية، مصر، المغرب، جيبوتي، باريس، لندن، جنيف، باكستان، تركمستان، روسيا، قطر.الى جانب تدريسه مادة التصميم المعماري في الجامعة اللبنانية، نشر فياض مقالات عديدة، في الصحف والمجلات، حول العمارة والتخطيط والعمران، صدرت في كتب، يجمع بينها أن مؤلفها ينظر الى العمارة كقضية وطنية وهوية. يقول إن "العمارة ليست فناً"، وليست "ترفاً" وهدفاً للربح المادي، بل هي ثقافةٌ مجتمعية، شمولية، تتحلى في غنى الكتابة، وتنجلى بالأخص في دقة المفاهيم والتدقيق في المفاهيم وتصحيح ما هو شائع بما هو واقعي وحقيقي.
وطوال عقود، راقب فياض التحوّلات التي مرت بها بيروت بعمرانها وناسها وأمكنتها ولغتها، اذ يعتبر أن "العمارة لصيقة بالشأن العام"، وأن "المدينة منتج اجتماعي جماعي". ولديه خلاصاته حول بيروت، حيث يرى وسطها (سوليدير) المزنرّ بالأوتوسترادات، "ضاحية" حقيقية تعيش على هامش المدينة بخلاف منطقة "الضاحية" التي تمتدّ شرايينها إلى باقي مناطق "بيروت الإدارية" وتشبه بعضها بعضاً في بيوتها وطريقة عيش ناسها... وفي الوقت نفسه، يعتبر أن بيروت لم تعد مدينة، بل "مجموعة جماعات مستقلة عن بعضها البعض، إن وجود المجالات العامة في المدينة هو أحد أهم معايير جودة الحياة فيها، بيروت لا تمتلك هذه المجالات، وبالتالي تفتقر الى شروط جودة الحياة". كما يرفض تسمية "المساحات العامة"، ذلك أن "المساحة" مصطلح هندسي صرف لا يستخدم في المدينة والعمارة. في المدينة، هناك مدى عام، ومجال عام، وحيّز عام. ينطلق فياض من التسمية ليؤكد أن المدينة، ليست أبنية وجسوراً هندسية، "هي جماعات تتلاقى في أمكنة ومجالات عامة، تتفاعل في ما بينها من أجل الدفاع عن مصالح مشتركة"، فتكون المجالات العامة مركزاً للتفاعل والتلاقي. ويشير إلى أن شركة سوليدير "محت الساحات والأسواق ولغتها من الثقافة ومن الذاكرة. استبدلتها بأبراج لا نعرف ساكنيها، وقتلت المجال العام، وطردت الفقراء وحولت بيروت الى مدينة للأغنياء"، و"أهملت القيمة التاريخية لوسط بيروت واستبدلتها بالقيمة التجارية لأسباب واضحة نعيش نتائجها اليوم". يقول فياض: "كانت هناك ساحة البرج، ماذا فعلوا؟ أزالوها عبر توسيعها وجعلها مفتوحة بشكلٍ يقسم المدينة الى شطرين، ما يعزز انقسام الناس". أما ساحة دباس فانتهت، وأصبحت اليوم تسمى "الصيفي". لم يعد هناك مكان في "قلب" البلد لالتقاء الناس، طردت الشركة الناس من وسط بيروت وأحضرت غيرهم من الأغنياء. يشرح فياض أن "الساحة كانت مكاناً شعبياً لكنهم غيروا طبيعة الشوارع ومستعمليها. رفعت الشركة أسعار الإيجار وأصبحت الشوارع للاغنياء، أما الناس فيزورون المنطقة عبوراً فقط، كأنهم يذهبون الى مدينة اخرى لأنها باتت خارج المناخ المديني لبيروت". وفي العموم، باتت بيروت طاردة لسكانها، وجاذبة للمستثمرين، إقصاء الفقراء فيها بدأ مع أزمة السكن، وبالتالي ما يجري في ملف الحيز العام "هو نوع من التجانس بين طبيعة المدينة الحالية وما تحويه من رأسماليين ومع طبيعة الحيز العام الذي سترتاده هذه الفئة حصراً".
في كتابه "نبض المدينة"، يعاين فياض المدينة العربية، بدءًا من بيروت، وصولًا إلى حلب، مرورًا بالمدينة العربية بوجه عام. يدرس تفاصيل العمارة في بنائها، وخلفيَّاتها، ومشاهدها الطبيعية والمصطنعة. ويقارن بين العمارةِ العربية وغيرها من العمارات الإنسانية. يطرح فياض كذلك المدن العربية للنقاش في ظل النظريات المعمارية العالمية. فكيف نقرأ الأبراج التي غزت بيروت فجأة؟ وماذا حلّ ببيوت المدينة ذات الأقواس الثلاثة؟ وكيف نستجيب كمعماريين ومخططين، اليوم، لآثار الحروب في مدننا؟ كيف يكون الإعمار إعماراً حقيقياً للإنسان لا استغلالاً للدمار؟وفي كتاباته عموماً، يعرّف فياض القارئ الى بيروت التي لا يعرفها: بيروت سوليدير ما بعد الحرب، وبيروت المتعدية على البحر، ويناقش التحولات والطفرات العمرانية التي مرت بها المدينة عبر تاريخها الحديث المرّ، متنقلاً بين المجالين المعماري والمديني. يتجول في شوارع، بيروت فتبدو المشاهدة عبر الكلمات، يسجل ما يراه، بعين رحالة وبعين ابن المكان وتاريخه معاً، فيسلط الضوء على الأشكال والوظائف والتحولات في البناء والمساحات. يقول في كتابه "العمارة الغانيّة": "أنظر حولك، هل من شيءٍ ثابتٍ، تراه؟
ألا ترى أنّ كل قائم، هو إلى زوال؟ وأنّ كل ما يحيط بك، قد تغيَّر؟
فلماذا هذا التوق إلى المجنون إلى الأبديّة؟
انظر! بالأمس، في هذه الصحراء المديدة أمامك، كانت تقوم مدينة، وفي المكان، حيث ينتصب الجسر العملاق، كانت تقوم بيوت صغيرة هادئة.
فماذا ستجني من ثباتك؟ وصلابتك؟
اقترب، ألا تسمع صوت الرياح القادمة؟ ألا يراودك ملمسي؟ ولمعان جسدي؟ وحرارة شفاهي؟ وأناقة معصمي؟
اقترب، أسرع، تبدو الرياح أسرع منك!".لا يقرأ فياض العمارة من حيث هي مجرد بناء هندسي، له جماليته المتفردة، بل من حيث هي جزء من تجليات متشابكة للعمران، من حيث هي علامة اجتماعية تاريخية في مجال أوسع هو العمران. يرفض "العمارة المجلوبة"، مسبقة الصنع. يعتبر أنها تظل غريبة عن المجال المحيط، لا تتآلف معه بقدر ما هي غريبة عن طرازه وتاريخه وناسه. في نظر فياض، المدينة هي الناس والإرث التاريخي والاجتماعي والمعماري مجتمعين، من بيروت الى حلب الى القدس، فـ"كل قراءة لعمارة مدينة عليها أن تبدأ بقراءة للموقع الطبيعي الذي تقوم عليه المدينة"، والذي عليه أيضاً أن يتلاءم مع الحاجات، حاجات الاجتماع الأصلية. القول الهندسي والمعماري تحديداً لفياض، يكتسب معناه وشرعيته من التزامه الموالفة بين الأمكنة وناسها، ومن التزام لا يقلّ أهمية لفكرة الحرية، هذه الفكرة التي لا تنفصل عن العمارة الحقيقية مهما تنوّعت طُرُزها. القول الهندسي الجديد أو الحديث، يجب أن يتكامل مع ما سبقه ويتأسس عليه. واستنتاجه بأن العمارة الراهنة قد أصبحت، في معظم الأمكنة، تخاطب نزعة الـEGO أو الأنا المنتفخة.. ومن هنا زيادة الاهتمام بالوظيفة الرمزية للعمارة، وازدهار منطق النفوذ والشهرة النجومية في الحقل المعماري.