مهنة المتاعب التي كان الإعلاميون في الماضي يتغنون بممارستها وبتحديهم لمخاطرها، تضاعفت اليوم مآزقها في ظل أزمات متراكمة يشهدها لبنان.
تأمين مواضيع وأفكار وتقارير إعلامية ما عاد وحده يشكل العنصر الأساسي لممارس هذه المهنة. ذلك أن هناك عناصر أخرى تطغى اليوم على مهمة الصحافي وتؤثر على عمله. من هذه الهموم تأمين التيار الكهربائي والإنترنت والوقود… وهي من لوازم الخدمات الأساسية التي ما عادت متوفرة، كما في الماضي.
وبدل أن يصيب الصحافي قلق بديهي حول إمكانية تأمين ضيف لحلقة إذاعية أو تلفزيونية أو حوار شيق لمقالة صحافية، يتضخم هذا القلق عنده ليتحول إلى هواجس بالجملة بفعل المشاكل التي يواجهها. وبالفعل، هذه الأخيرة باتت تسيطر على إيقاع ووتيرة العمل اليومي، لا سيما وأنها تلامس تفاصيل دقيقة، ما كان يُحسب لها أي حساب في الماضي القريب.
الإعلامية هدى شديد، مراسلة نشرات الأخبار في محطة «إل بي سي آي»، تروي لـ«الشرق الأوسط» معاناتها مع الأوضاع الحالية السائدة في لبنان، فتخبرنا كيف تحاول جاهدة تخطي المشاكل اليومية من أجل ممارسة مهنتها على أكمل وجه. وتقول هدى، «أمارس عملي في غالبية الوقت من منزلي، ولذا تواجهني معضلات كثيرة في إنجازه. اضطررت لإجراء اتصالات مكثفة بعدة شركات تستورد مادة المازوت (وقود الديزل)، كي أؤمنها لصاحب المولد الكهربائي الموزعة اشتراكاته من منطقة التحويطة (ضواحي بيروت) حيث أسكن وصولاً إلى ضاحية فرن الشباك. وأنا أسكن في الطابق العاشر، وإذا ما انقطع التيار الكهربائي تكون الكارثة بحد ذاتها. فبذلك ينقطع نَفَسي ومعه… الإنترنت والتليفون، ولا يعود من الممكن ممارسة عملي. وبالتالي فإن فاتورة الاشتراك ارتفعت أضعافاً مضاعفة بحيث تفوق مدخولي الشهري أحياناً».
وتضيف: «يمكن القول إننا أصبحنا نعمل من أجل تسديد الفواتير لا أكثر. والأهم هو أن يبقى هذا المدخول مستمراً، فلا نصبح عاطلين عن العمل، ومن دون مردود مادي، عندها ستصبح حياتنا أسوأ».
وتنهي هدى كلامها بالقول: «إننا اليوم نقاوم ونصمد رغم كل شيء. غير أن ما يقلقنا هو المصير الغامض الذي يحيط بنا، فنحن لا نعرف ماذا ينتظرنا في الغد، ولذلك نعيش كل يوم بيومه».
من جانبه، يؤكد الصحافي جوزف فرح، مسؤول الصفحة الاقتصادية في صحيفة «الديار»، أنه لم يسبق أن واجه هذا الكم من التحديات خلال ممارسة مهنته.
وهو يرى أن العمل الصحافي لن يتوقف لأنه ليست هناك من مؤسسة إعلامية ترغب في الغياب عن الساحة اللبنانية، في هذه الفترة بالذات. ومن ثم يقول لـ«الشرق الأوسط» شارحاً: «التحديات التي نواجهها كثيرة، لا مجال لمقارنتها بأخرى سابقة.
لقد شهدنا من قبل حقبات سيئة كثيرة من حروب واعتداءات إسرائيلية وخلافات سياسية، لكن حالنا المتردية، لم تصل إلى ما نحن عليه اليوم». ويتابع فرح: «أنا أعمل في القسم الاقتصادي بجريدة (الديار). وهو الأمر الذي يتطلب مني دواماً يومياً.
فالمطبخ الاقتصادي آني ويحتاج إلى المتابعة الحثيثة. أنا مشاكلي تبدأ منذ مغادرتي البيت على السلالم في ظل انقطاع التيار الكهربائي. وبعدها على تأمين الوقود لسيارتي والوقوف في طوابير الذل أمام المحطات. وإذا ما حان وقت العودة إلى المنزل عليّ أن أفكر بإمكانية توقف المولد الكهربائي الخاص بالحي أثناء استخدامي المصعد. ولذا أعود أدراجي سيراً على الأقدام».
ثم يستطرد: «في نهاية اليوم. وبعدما أستجمع كل ما مررت به من خضات ومطبات، لا سيما تلك المتعلقة بمصروفي اليومي كوني رب عائلة، أشعر وكأني أمضيت يوماً بأكمله وأنا أسابق الوقت ليس أكثر. الضغوط التي نعيشها اليوم تفوق قدراتنا… والصحافي اللبناني بات يمارس مهنة المتاعب بكل ما للكلمة من معنى».
وحقاً، لا تنحصر التحديات التي يعيشها الإعلامي في لبنان بتأمين لقمة عيشه كغيره من الناس. إذ المطلوب منه تجاوز أزمات كثيرة تواجهه.
فعليه أن يتابع وصول بواخر الفيول إلى الشاطئ اللبناني كي يطمئن، كذلك عليه أن يحفظ برنامج تقنين شركة الكهرباء وبرنامج المولد الخاص المشترك فيه. أما علاقته مع الإنترنت فحدث ولا حرج، فهو يعيش قلق انقطاعه خشية أن ينقطع رزقه. وإضافة إلى دوام العمل، لديه دوامات أخرى في محطات الوقود والصيدليات والأفران و«السوبر ماركت»، ما يجعله يصل منهكاً إلى بيته في نهاية اليوم.
وهنا تخبرنا سمر أبو خليل، مذيعة الأخبار في محطة «نيو تي في»، عن هواجسها كإعلامية في ظل الأوضاع المتردية التي يعيشها اللبناني بشكل عام، فتقول لـ«الشرق الأوسط» بشيء من الألم، «أعتقد أننا جميعنا كإعلاميين تتوحد مشكلتنا لتتمثل بأن مداخيلنا ما عادت تكفينا. كثيرون يظنون أننا نتقاضى أجوراً عالية، لكن هذا ليس صحيحاً، إذ لا تزال أجورنا محسوبة على السعر الصرف القديم للدولار الأميركي، أي 1500 ليرة لبنانية للدولار. ثم إن المؤسسات الإعلامية لم تفكر بزيادة الأجور، لأنها هي نفسها تعاني من أزمات اقتصادية كثيرة».
وتضيف: «صحيحٌ أنني أتوجه إلى المحطة لأقوم بعملي كمذيعة أخبار ومحاورة في برنامج سياسي، غير أن تحضير عملي ينطلق من بيتي. فأنا أجري أبحاثي في المنزل ممسكة قلبي بيدي. وتتجلى الكارثة عندما ينقطع التيار الكهربائي… فلا مازوت، لا وقود، لا إنترنت، ولا تليفون، ناهيك من التفكير بمشاكل الأولاد، ومصيرهم الدراسي الغامض أيضاً».
ومن ثم، تتابع سمر: «في بلدٍ يميل أمنه نحو الفلتان صار على الإعلامي أن يفكر مرتين قبل كتابة رأي أو استضافة شخصية سياسية، خوفاً من تداعيات ذلك عليه.
صار من الصعب الحفاظ على موضوعيتك في ممارسة عملك. ثمة قلق ينتابنا أيضاً على حياتنا وحياة أولادنا، والفوضى السائدة في البلاد تدفعنا إلى الحذر. أنا شخصياً لا أقود سيارتي من دون سلاح أضعه بقربي لأستخدمه لدى عودتي إلى منزلي في ساعات متأخرة من الليل، في حال جرب أحدهم سرقة سيارتي… أو إيذائي لأنني أبديت رأيي بصراحة».
من ناحيته، يؤكد بسام أبو زيد، مذيع نشرات الأخبار في محطة «إل بي سي آي» لـ«الشرق الأوسط»، أنه حتى اليوم لم يواجه مشكلات تذكر في ممارسة عمله. ويضيف: «تلفزيون (إل بي سي آي) يؤمن لنا الوقود، ولذا لا معاناة من هذه المشكلة حتى اليوم.
حالياً أعمل على تأمين التيار الكهربائي لمنزلي بواسطة الطاقة الشمسية، وبذا سأقضي على هذه المشكلة كلياً. كذلك أفكر بتقنية حديثة تؤمن لي الإنترنت. وهكذا، أستطيع القول إنني حتى اليوم والحمد الله لا يزال إيقاع حياتي أفضل من غيري. صحيح أننا ألغينا أموراً كثيرة من حياتنا لكننا لا نزال صامدين».
كان الختام مع جويس عقيقي، مراسلة نشرات الأخبار في قناة «إم تي في»، التي رأت في لقائها مع «الشرق الأوسط» أن التحديات التي تواجهها اليوم كإعلامية لا تنحصر بالأزمات الحياتية فقط… موضحة: «بالنسبة للأزمات التي تتحدثين عنها فنحن نعيشها كغيرنا من الناس. ويمكنني القول إنها لا تؤثر على سير مهنتي لأنني أمارس عملي من تلفزيون (إم تي في)، حيث كل شيء مؤمن لي. كما أن رئيس مجلس إدارة (إم تي في) استحدث محطة وقود في مبنى الشركة، ولذا لا نواجه أي مشكلة في هذا الخصوص. غير أن التحدي الأكبر الذي أعيشه أنا شخصياً، يتعلق بالضغط النفسي الذي أواجهه في عملي كمراسلة أخبار. فعندما أكون في قلب المأساة، يصبح ألمي مضاعفاً. هذا الأمر أشعر به عندما أحاور أم شهيد أو والد ضحية في انفجار بيروت، مثلاً، وكذلك عندما أغطي حادثة حريق وطوابير الذل في محطات الوقود، فأكون في قلب الحدث الموجع. هذه الأحداث اليومية في لبنان تؤلمني كغيري من المراسلين، وتؤثر على حالتنا النفسية وتضعنا في دوامة نتمنى أن نستفيق منها».