كما تحوّل يوم 4 آب 2020، أي قبل سنة تماماً، إلى تاريخ دموي مفجع جراء أضخم ثالث انفجار تقليدي في العالم، فإنّ وقائع 4 آب 2021 بدت كآنها تسعى إلى تثبيت واقع أنّ ما بعد هذا اليوم لن يكون كما قبله. والحال أنّ إحياء الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت اتسم بمجموعة مفارقات لافتة جعلته يوماً لبنانياً مشهوداً داخلياً وخارجياً تداخلت وتزاحمت عبره التطورات سواء في الشارع، حيث عادت حماوة المواجهات الشرسة بين مجموعات من المتظاهرين قرب مجلس النواب خصوصاُ، أو في صورة التعبير الشعبي والتعاطف الوطني الواسع مع شهداء 4 آب وذويهم والذي ترجم بحشود فاقت التوقعات وناهزت عشرات الوف المواطنين الذين غطوا الساحات والشوارع بين وسط بيروت ومرفأ بيروت، وصولاً إلى مؤتمر الدعم الدولي الثالث للبنان الذي نظّمته فرنسا واتسم بكثافة الزعماء المشاركين فيه يتقدمهم الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون والأميركي جو بايدن والمواقف البارزة التي اعلنها المشاركون فيه ومقرراته.
كلّ هذا حوَّل يوم 4 آب هذه السنة علامة فارقة داخلياً وخارجياً لا يمكن القفز فوق دلالاته، سواء لجهة ما أظهرته كثافة الحشود المشاركة في يوم إحياء ذكرى تفجير المرفآ ام لجهة نجاح مؤتمر الدعم الدولي في جمع 375 مليون دولار مساعدات للبنان لمدة سنة، وهو الأمر الذي لم يكن متوقّعاً أن يبلغه المؤتمر في ظل الإدانة الدولية الواسعة التي تظهرت في المؤتمر للسلطة السياسية والطبقة السياسية في لبنان مع استمرار التأزم في تشكيل الحكومة. ولعلّ أكثر ما فضح واقع السلطة والسياسيين في لبنان أمام المجتمع الدولي أنّ ذكرى انفجار المرفأ استقطبت للبنان تعاطفاً قويّاً وواسعاً وانعقد من أجله في هذا اليوم بالذات مؤتمر دولي شاركت فيه نحو أربعون دولة ومنظمة الدولية. كما استبق البابا فرنسيس المؤتمر ووجه نداء مؤثّراً للبنان مؤكداً رغبته في زيارته، في حين كان المشهد السياسي الداخلي يجرجر ذيول الإخفاق والمبررات الساقطة وغير المقنعة للمضي في تعطيل تشكيل الحكومة العتيدة التي هي مطلب خارجي وداخلي جماعي.
واكتسبت عظة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، خلال ترؤسه القداس الاحتفالي على أرض المرفأ حيث وقع الانفجار وامام أهالي الضحايا دلالات بارزة وقوية، إذ أعلن أنّ “مطلبنا الحقيقة والعدالة، نحن هنا لنطالب بالحقيقة والعدالة”، مشدّداً على أنّ “الأرض ستبقى تضطرب في هذه البقعة إلى أن نعرف حقيقة ما جرى في مرفأ بيروت”.
وأشار إلى أنّ “الدولة لا تدين بالحقيقة فقط للأهالي بل لكل لبناني للأجيال اللبنانية للتاريخ والمستقبل والضمير”، موضحاً أنّ “العدالة ليست مطلب عائلات منكوبة بل مطلب الشعب اللبناني كله”. وأضاف الراعي: “نريد أن نعرف من أتى بالمواد المتفجرة من هو صاحبها الأول والأخير؟ من سمح بإنزالها وتخزينها ومن سحب منها كميات وإلى أين أرسلت؟ من عرف خطورتها وتغاضى عنها؟ من طلب منه أن يتغاضى؟ من فجّرها وكيف تفجّرت؟”. وأكد أنّ “واجب كل مدعو للادلاء بشهادته أن يمثل امام القضاء من دون ذرائع وانتظار رفع الحصانة، معتبرًا أن كل الحصانات تسقط امام دماء الضحايا والشهداء ولا حصانة ضد العدالة. وأردف: “نتلطى وراء الحصانة حين نخاف العدالة ومن يخاف العدالة يدين نفسه بنفسه”.
وتابع الراعي: “عيبٌ أن يتهرّب المسؤولون من التحقيق تحت ستار الحصانة أو عريضة من هنا وعريضة من هناك”. وأطلق نداء الى المسؤولين لتشكيل حكومة بأسرع وقت، مضيفاً: “لا حياة لمن تنادي وكأن لا عاصمة انفجرت ولا شعب يجوع، والعالم على عكس المسؤولين بدأ يصغي للبنانيين وصمّ أذانه عن الدولة التي لا يثق بها”، مضيفًا: “إنّ الدول المشاركة في مؤتمر باريس تريد مساعدة الشعب اللبناني وإنقاذه وهم يعرفون أنّ شعبنا زرع العالم ثقافة وسلاما وساهم في نهضة البشرية وتعزيز العولمة ولا يخفاهم ان مشاكل لبنان ناتجة من صراعات خارجية وهو ضحية لعبة الامم، وتابع: “كم مرّة سلّم لبنان الى اكثر من احتلال ووصاية في اطار الصفقات الاقليمية والدولية، فبقدر ما يجب على الشعب ان يغيّر في سلطته يجب على العالم ان يغيّر في سياسته وادائه تجاه لبنان”.
ورأى أنّ تجاوب العالم مع لبنان يبدأ بإنقاذه اقتصاديًا وماليًا ثم عقد مؤتمر دولي خاص به يعلن حياده ويضع آلية لتنفيذ القرارات الدولية حتى لو استدعى ذلك اصدار قرارات جديدة، مشيرًا إلى أن المرفأ وحّدنا موجّها دعوة وطنية شاملة الى خلق زمن جديد، زمن التغيير الإيجابي، وشدد على أننا مدعوّون الى حسن الاختيار والاقتراع في الانتخابات النيابية المقبلة خصوصًا ان المجلس الجديد سينتخب رئيس الجمهورية المقبل وبعد الفواجع لا مكان للمساومات بل للقرارات الشجاعة الواضحة الشفافة”. وسأل الراعي: “ماذا ينتظر اهل السلطة كي يعالجوا حاجات الناس؟ الى أي قعر ينتظرون ان تصل البلاد حتى تتحرك قلوبهم ويعكفوا على التخفيف من آلام الناس؟ اي تدبير جدي اتخذوا؟ ألا يخجلون من ذواتهم ومن المجتمع الدولي المعني بلبنان اكثر منهم بأشواط وأشواط؟”.
في غضون ذلك، شهد محيط مجلس النواب اشتباكات لافتة وتوتّراً، بعدما عمد عدد من المحتجين إلى رشق المجلس بالحجارة. وقام عدد من الشبان بتسلق البوابة محاولين انتزاع الاسلاك الشائكة، مطالبين بـ”رفع الحصانة وبتحقيق العدالة”. وحاولت مجموعة من الشبان التقدم بإتجاه بوابة شارع باب إدريس في مجلس النواب وهي مزودة بعصي وحجارة وقاطعة أسلاك شائكة، فيما القت القوى الأمنية القنابل المسيّلة للدموع باتجاه المتظاهرين في محيط المجلس لتفريقهم.
وتصاعدت لاحقاً حدة المواجهات بين المتظاهرين والقوى الامنية قرب مبنى “النهار”، وازدادت أعداد المتظاهرين. وتصاعدت المواجهة لدى إحداث المتظاهرين ثغرة عند مدخل البرلمان الملاصق لفندق “لوغراي”، وأضرموا النيران عند البوابة، وسط تصاعد حدة المواجهات.
واتخذت المواجهات ليلاً بُعداً خطيراً مع اقتحام متظاهرين مبنى مؤسسة “كهرباء لبنان” وحصول مواجهة حادة مع القوى الأمنية.
وفي غضون ذلك، أعلنت الرئاسة الفرنسية حصيلة مؤتمر الدعم الدولي الثالث أنّ المشاركين لبّوا دعوة الأمم المتحدة الإنسانية الإضافية بقيمة 357 مليون دولار للأشهر الـ12 المقبلة والعهد دعم مالي إجماله 370 مليون دولار تلبية للحاجات الأكثر إلحاحاً من غذاء وامن ومياه ومواد صحية والصحة والتربية. ورحب المشاركون بتكليف نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة ودعوا الى قيام حكومة مهمتها انقاذ البلد. وتزامن ذلك مع إصدار وزارة الخارجية الأميركية بياناً ندّدت فيه بالهجمات الصاروخية التي شنتها مجموعات مسلحة تتمركز في لبنان على إسرائيل واعتبرت أنّ من يسمّون انفسهم بالقادة في لبنان يتحملون مسؤولية الفشل الذي تشهده إلبلادواعلنت اننا نملك وسائل عدة لمحاسبة المسؤولين عن معاناة اللبنانيين ومن بينها العقوبات.