أخذ الرئيس المكلف سعد الحريري قراره بالإعتذار منذ شهر تقريباً. توصل الى قناعة بأنه وصل الى طريق مسدود، وأن مهمته التي انطلقت من "حكومة مهمة" تحت سقف المبادرة الفرنسية إنتهى بها المطاف الى حكومة تكنوسياسية
أقرب ما تكون الى حكومة حسان دياب ثانية، وتحت سقف "مبادرة بري"... عوامل كثيرة لعبت وساهمت في تكوين
هذه القناعة: إنفراط عقد العلاقة والثقة مع رئيس الجمهورية، وعدم الرغبة في إقامة شراكة حكومية جديدة بأفق
رئاسي مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وعدم وجود حليف وسند داخلي له ما عدا الرئيس نبيه بري، وامتناع حزب الله عن ممارسة أي تدخل لمصلحته ولممارسة أي ضغوط على عون وباسيل... يُضاف الى ذلك عاملان
خارجيان: إنكفاء وتلاشي المبادرة الفرنسية في شقها السياسي والحكومي، ولتنحصر في شق إنساني و"عسكري" (دعم الجيش) ، واستمرار الأزمة الشخصية والسياسية مع المملكة السعودية، وحيث أخفق الحريري في كل محاولاته لإعادة وصل ما انقطع بينه وبين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وبعد تعثر الوساطات والمداخلات في هذا المجال من جانب فرنسا ومصر والإمارات، كان الحظ العاثر للحريري عندما طرأ وبشكل مفاجئ نفور وخلاف بين الإمارات والسعودية، وجاء في الوقت غير المناسب بالنسبة له. لم يستطع الحريري أن يعلن قراره ويضعه موضع التنفيذ. فقد جاءه دعم واضح وكامل من الطائفة السنيّة ومرجعياتها الدينية (دار الفتوى والمجلس الشرعي الأعلى) والسياسية (رؤساء الحكومات السابقين) ، وبما مفاده أنه هو من يمثل الطائفة في الحكم ولا بديل عنه، وأن المسألة هي أولاً مسألة رئاسة الحكومة دوراً وصلاحيات، وثانياً مسألة إخلال بدستور الطائف. ولكن السبب المباشر الذي حال دون الذهاب الى خيار الإعتذار وأبقى هذا القرار طي الكتمان وقراراً مع وقف التنفيذ، هو موقف الرئيس نبيه بري الذي ألح على الحريري بعدم الإنسحاب و"ضغط عليه"
للبقاء حتى لا يعطي باسيل إنتصاراً سياسياً مجانياً، ولا يعطي رئيس الجمهورية قدرة التحكم بالحكومة الجديدة التي تنتظرها مهام واستحقاقات كثيرة، وحتى لا تتسارع وتيرة الإنهيارات التي بدأت اقتصاية مالية وتصبح سياسية الآن، وأمنية في وقت لاحق مع حصول الإنفجار الإجتماعي واحتدام التوترات السياسية والطائفية التي يمكن أن تطال أيضاً
العلاقة السنيّة ـ الشيعية.
بعد أسابيع من التريث والإنتظار، تعززت "قناعة الإعتذار" لدى الحريري. وفي المقابل، إنخفض حماس وإصرار الجهات المحلية والخارجية الداعمة له... عوّل الحريري على مبادرة بري، خصوصاً وأنها حظيت بتغطية ودعم حزب
الله. بعد سقوط هذه المبادرة عندما تنصّل باسيل منها معلناً أنه لا يثق إلا بالسيد حسن نصرالله، إنتظر الحريري تدخلاً
من حزب الله وفي اتجاه الضغط على باسيل لحمله على تليين الموقف، وهذا ما لم يحدث من وجهة نظر الحريري، أو أنه لم يكن كافياً، وما ظهر من مؤشرات إيجابية جاء متأخراً، إن لجهة ما قيل عن حل مشكلة "الثقة المسبقة" من جانب نواب التيار، أو ما أبداه باسيل من مرونة مفاجئة وما قدمه من عرض لحل عقدة الوزيرين المسيحيين.
إذا كان الحريري توصل الى قرار الإعتذار واتخذه، فإنه لا يعلنه في الحال ويتريث في ذلك. المسألة باتت مسألة توقيت وإخراج. التوقيت الذي يكون أفضل كلما كان الإعتذار أقرب من موعد الانتخابات النيابية... والإخراج السياسي الذي لا يجعل الإعتذار هزيمة للحريري وانتصاراً لباسيل. ولذلك، فإن إعلان قرار الإعتذار مؤجل الى ما بعد صياغة ترتيبات عملية الإنتقال من الحريري الى سواه، ومن حكومة الإصلاحات الى حكومة الانتخابات، أي التفاهم على "مرحلة ما بعد الإعتذار" التي فتحت وبدأ البحث بها. والبداية تكون بالإتفاق على "البديل"، أي على الرئيس المكلف
الجديد وإسم الشخصية السنيّة التي تقبل بهذه المهمة وتحظى بغطاء وقبول الطائفة السنيّة، وموافقة الحريري بالدرجة
الأولى... وبالفعل، فإنه بموازاة فتح صفحة "ما بعد الإعتذار"، تم فتح صفحة "البدائل" وبدأ التداول في بورصة الترشيحات التي
فتحت على أربعة أسماء: إسم صدر عن الحريري وهو سمير حمود... إسمان نُسبا الى عون وهما جواد
عدرا وجمال كبي. وإسم رابع شكل مفاجأة ليس في إسمه وإنما في عدم ممانعة السعودية له، وهو فيصل كرامي.