الفرنسيون حكموا على مجتمعهم المدني بعدم جدارته لتولي السلطة .. فهل تتكرر لبنانيا؟
أنطوان الأسمر - على مرمى سنة من الإنتخابات الرئاسية الفرنسية، يجد إيمانويل ماكرون نفسه في مأزق كبير. فخسارته المدوية في الإنتخابات المناطقية جرّاء عودة الفرنسيين الى الإصطفاف التقليدي، بين يمين ويسار، يبدد تدريجيا سعيه الى ولاية رئاسية ثانية.
كشفت الانتخابات المناطقية تعثّر الماكرونية، وإستطرادا فشل حزب "الجمهورية الى الأمام" في الاستحواذ على مزاج الناخب الفرنسي، بدليل ضعف الإقبال على صناديق الإقتراع (67.6%) والعجز عن تحقيق أي فوز على مستوى كل المناطق، مما يحتم استنتاجا بسيطا بفقدان الثقة الشعبية بـ "عقيدة ماكرون" la doctrine Macron وبآلياتها وعناصرها، وهي القائمة أساساً على التغيير من خارج المألوف، بالاتكال على المجتمع المدني الفرنسي الذي كان عماد الماكرونية في الانتخابات التشريعية سنة 2017. يومها فاخر الأمين العام لحركة "الجمهورية إلى الأمام" ريشار فيران أن "52% من المرشحين (الـ428 ونصفهم من النساء) من المجتمع المدني ولم يمارسوا أي مهام في منصب منتخب ولا أي مهام سياسية".
على هذا المنوال المدني خاطَ ماكرون فريقه الرئاسي ومن ثم أولى حكوماته، رغم أنه آتٍ من المدرسة العليا للإدارة، مصنع النخبة من الساسة الفرنسيين التقليديين. هو بذلك فضّل أسماء مجهولة من المجتمع المدني لا ناقة لها في السياسة والشان العام، للعمل معه على تحقيق برامجه.
نجحت الماكرونية في استمالة الناخبين، و انتشت بالمشهد الجديد الذي قدّمته في المسرح السياسي الفرنسي. رأي عام يصفق لها بإعجاب وتقدير، وهو المصاب بالملل المذيّل بالخيبة نتيجة إعادة إنتاج النظام المؤسسي الفرنسي نفسه عبر نخبة ذات لون موحد، يمينية كانت أم يسارية.
استطابت قدرتها على إحداث إختراق غير متوقع في البنيان السياسي الفرنسي المعتاد على التقليد. وصارت على قناعة بأنها ما كانت لتحقق النصر الكبير لولا استنادها إلى المجتمع المدني ذي الصورة اللمّاعة بصفته غريبا عن العمل السياسي المتعارف عليه فرنسيا. نسجت على هذا المنوال فتحقق، إذاً، النصر، وبان لها أن تلك التجربة البيضاء صالحة للتصدير أينما تراءى لها ذلك مناسبا أو ضروريا، وتحديدا في بلاد الإستعمار السابق أو حيث شعوب خارجة من عقود من الشمولية والاستبداد.
تأسيسا على ما حققه لها المجتمع المدني (المنظّم قانوناً منذ العام 1901)، تراءى للماكرونية أن عودة فرنسا إلى مناطق النفوذ الآفل، بالتأثير والمصلحة الإقتصاد والعاطفة والوجدان، لا تتحقق سوى بجعل تلك الشعوب ترذل الطبقة السياسية التقليدية وتتجه الى إنتاج بدائل تحت ستار المجتمع المدني.
وجدت الماكرونية أولى فتوحاتها في مصر، فصرّح ماكرون من القاهرة (28 كانون الثاني 2019) أن "وجود مجتمع مدني ناشط في مصر هو الضامن ضد التطرف والإرهاب". ومن هناك صار الخطاب عن حقوق الإنسان ومقارعة التطرف، وخصوصا في دول الخليج والساحل الأفريقي، جزءا من إستراتيجية العمل الفرنسي في المنطقة، الى أن حطّت فكرة التغيير عبر المجتمع المدني رحالها في بيروت، غداة تفجير 4 آب. يومها، صاغت خلية الأزمة الخطاب المتشدد والمهين للطبقة السياسية، وبلورت مع إدارة الرئيس دونالد ترامب والمجتمع الدولي آليات تمكين المنظمات غير الحكومية عبر مدّها بمختلف أشكال الدعم السياسي والمادي. وحينها أيضا بدأ لبنان يشهد نموا فطريا غير مسبوق في إنشاء الجمعيات والمنظمات المدنية التي سُلّمت مهام توزيع المساعدات على المنكوبين وترميم ما أمكن من المساكن المتضررة.
مع إستمرار تعثّر المشهد الحكومي وشعور ماكرون بالخذلان والإهانة نتيجة إفشال الطبقة السياسية مبادرته، وتعثّر تجربة المجتمع المدني اللبناني، إنتقل الى الخطة باء: حكومة مهمتها الوحيدة تنظيم الإنتخابات النيابية وجعلها منصة للإنتقام من تلك الطبقة عبر تقزيمها، وطردها إن أمكن، على أن يكون السند الأساسي لإنجاح المرشحين المدنيين عزل الدولة كليا عن أي جهد دولي إنقاذي، كما عزلها تدريجا عن تقديم الخدمات العامة المتعثرة. فابتكرت خلية الأزمة في الأسابيع الأخيرة فكرة إنشاء نظام تمويل خاص لتلك الخدمات بالتعاون مع شركاء من المجتمع الدولي، أعلن عنه ماكرون (10 حزيران) على أن يخضع "لقيود دولية" ويتيح "تمويل أنشطة أساسية" و"دعم الشعب اللبناني"، إذا "استمر غياب الحكومة واستمرت الأطراف السياسية بلا مسؤولية".
يعوّل ماكرون على الخطة باء كجزء من حملته الإنتخابية الرئاسية. هو لم يشف بعد من الخسارة الدراماتيكية في الانتخابات المناطقية والنكسات التي أصابت سياسته الخارجية في المتوسط كما في الساحل الأفريقي، الى جانب خسارة توتال، الذراع التنفيذية العملاقة لتلك السياسة، أكثر من مكمن نفطي وغازي.
بذلك تحوّل المجتمع المدني اللبناني عنصرا رئيسا في خطة ماكرون للتجديد الرئاسي. فهل ينصره فيتحقق له ما تريده باريس من انتصارات في الانتخابات النيابية المقبلة، أم يخذله كما خذله مجتمعه المدني الذي جرّده الناخبون وجهه البراق بثبوت عدم فاعليته وتشتته بين النظريات والأفعال، فحكم عليه بأنه غير أهل بتولي السلطة التنفيذية؟