يُحبون بصدقٍ، بلا حساب، ويُلاقون كل الآخرين بقلوبٍ بيض ناصعة وبابتساماتٍ عريضة وبصفاءٍ شديد. يضحكون كثيراً. يعبسون أقل. ويزرعون أينما حلّوا كثيراً من الفرح. ميّا (39 عاما) واحدة من هؤلاء، ممن ولدوا بـ”كروموزوم” إضافي فصُنّفوا من بعض الأغبياء: ناقصين! هي فتاة منحها الله مع الـ”كروموزوم” الزائد وزنات كثيرة فراحت توزّعها يمنة ويسرة، في العالم كله، وعلى المنابر العالمية، مرددة بصوتٍ عالٍ: “إزرعوا الحبّ تحصدوا حباً… وآمنوا بقدراتكم فأنتم تستطيعون أكثر مما تعتقدون”.
“أريد أن أعيش حياتي، مستقلة، أدرس أرقص، أضحك، أرسم، أسافر، أصمم الأزياء”… تُخبر ميا عن ذلك وهي تبتسم. إبتسامتها جميلة جداً كونها صادقة جداً. تدخل. تلقي التحية. تُصغي بانتباه شديد. تنظر في العيون. تتمعّن في الأبعاد. تقلب بين صفحات هاتفها الخليوي. وتقلب شفتيها حين تشعر بكراهية أحد تجاه أحد حتى بحرفٍ أو حركة أو إيماءة. وتُعرّف عن نفسِها بثقة الشابة المليئة بالأمل والطاقة والأحلام: “إسمي ميا فرح، أدافع عن الذات، أدافع عن الحقوق المدنية للأشخاص ذوي الإعاقة. ولدتُ في لبنان لكن كم تمنيت لو كنتُ بريطانية لأنني أحب الثقافة كثيراً. هناك، في بريطانيا، ثقافة وتراث وجمال. أما هنا، فثمة بشر لا يتقبّلون أشخاصاً مثلي. هناك أشخاص لا يتقبلون في محيطهم وثقافاتهم أشخاص “متلازمة داون”. كلام “ميا” يُلخّص حال مجتمع أو لنقل حال بعض من هم في المجتمع ممن يظنون أن الله خلقهم وكسر القالب. وينظرون الى أيّ إختلاف، وأيّ مختلف، نظرة بلا رحمة لا تمت الى الإنسانية بصلة.
لهذا السبب كرهتُ “العربيّة”
تتحدث ميا الإنكليزية والفرنسية بطلاقة أما اللغة العربية فتتهرب منها. فهل تفعل ذلك عن قصد؟ سؤالٌ يُطرح والإجابة عليه تصعق: “بعمرِ السبع سنوات عرفت حالتي. أخبروني عن متلازمة داون. وحاولتُ باكراً أن أفهم نفسي أكثر. ويومها كانت والدتي جميلة جداً”. تنظر الى والدتها وتبتسم لها كثيراً فنشعر بأن وراء الإنسانة التي أمامنا أُمّاً عرفت كيف تبني الثقة وكل هذا الحبّ في نفسِ ابنتها. تتابع ميا في سردِ قصتها: “في خلال الحرب سافرت مع أهلي الى كاليفورنيا وهناك درست. وحين رجعتُ الى لبنان مع شقيقيّ رجا ومروان تعرفتُ الى معلمة اللغة العربية”. تسكت، تتمهل، وتعترف: “لا أحبها. لم أحبها”. تقول هذا على مضض ثم تستدرك وتقول: بلى أحبها. لكنها لم تحب أن تعلّمني وقالت عني: منغولية. يومها بكيت. صرخت. غضبت. وحزنت كثيراً. لم أشعر بالسعادة في مدرستي في لبنان. ما قالته المعلمة أزعجني كثيراً، لهذا تابعتُ دراسة اللغتين الإنكليزية والفرنسية وتعلمتُ قليلا الإسبانية. وتعلمتُ أيضا لغة الإشارات وكرهت العربية”.
أن يصدر هكذا كلام، فيه تهميش كثير، من معلمة فهو نذير بأننا في مجتمع غير محصّنٍ إنسانياً، يُميّز بين مَن ولد بمتلازمة إضافية وبين من يُصنفون بلغة البشر “طبيعيين”. هو مجتمع يحتاج الى إعادة بناء على المفاهيم الإنسانية. فكلمة “منغول” جعلت “ميا” تبكي كثيراً. أما المعلمة فليتها تكون قد فهمت بعدها، وبعد أن قالت لها ميا: “ما زلتُ أحبك”. أنها أخطأت خطأ جسيماً.
على المنابر الدولية
نظرات المجتمع التي لاحقت ميا لم تُضعفها بل زادتها وعائلتها إصراراً على أن تصبح بالفعل مميزة عن كل الآخرين. فالصبية أصبحت عضواً في الشبكة الدولية للأشخاص ذوي الإعاقات الذهنية وأسرهم inclusion international واعتلت منبر الأمم المتحدة في نيويورك مرّات وقصر الأمم المتحدة في جنيف مدافعة عمن يستضعفه المجتمع وهو قادر على كل شيء. ميا أصبحت أيضاً عضواً في فريق عمل Empower us. وبرزت في كل مكان يمكن أن يرفع الإنسان فيه صوته ويقول: هذه حقوقي وأريدها. رائعة حقاً هي هذه الصبية. سافرت كثيراً. تعرفت الى بشر كثيرين. ومثّلت وطنها الأم، وعبّرت باسم من هم مثلها، في وطنها، وفي كل مكان حلّت فيه. وأينما وُجدت تركت بصمة وابتسامة وكثيراً من الدروس والحبّ.
“يحق لنا أن نكون جزءاً من هذا المجتمع. يحق لنا أن نُدمج مع الآخرين، معكم، وأن نتكلم ونقترع وأن نوقّع وأن نعيش”. قالت ذلك ميا. رفعت صوتها عالياً وسمعها كل العالم. وكم هناك من هم مثل ميا بحاجة أن يرفعوا صوتهم ويقولون: نحن هنا.
“أريد أن أكون فاعلة وقوية وأن أعرف حقوقي. أريد أن أساهم في تغيير الذهنية السائدة تجاه الأشخاص المصابين بمتلازمة داون”. نشعر بحزنها حين تتطرق الى ارتكابات المجتمع، ونشعر بقوتِها وهي تُردد بكثير من التحدي: “ذهبتُ الى الأمم المتحدة. هناك رفعت صوتي وصوت كل المصابين بمتلازمة داون”.
الأم البطلة
تدخل والدتها فاديا فتحتضنها، تعصرها بين أضلعها، نحو القلب، وتشدّ، هي قلبها الذي تخفق من خلاله منذ عرفت بأن طفلتها الوحيدة، التي أتت بين صبيين، قد ولدت بـ”كروموزوم” إضافي. ننظر الى فاديا ونصغي الى حديثها فندرك أن وراء الإبنة البطلة أمّاً بطلة دعمتها بكلِ ما أوتيت من قوة. مشهدٌ جميل ومناجاة رائعة بين الأم والإبنة. فماذا تقول فاديا عن ميا؟ تتحدث الوالدة عن لحظة ولادة ميا وكلام الناس و”التدخلات” والنصائح التي أغدقوها عليها، من كل حدب وصوب، بحجة أن “قلوب الناس” معها! قالوا لها: “معليش لديك غيرها فلا تحزني”. وهناك من همس في أذنيها بنصيحة: “لا تقولي أن لديك إبنة مصابة بمتلازمة داون كي لا يتأثر سلباً مستقبل الولدين الآخرين”. صديقة لها خبّأت طفلها خوفاً عليه من ميا. وبعد مرور أعوام أتت إليها تعتذر. فمشكلة ابنها الذي أصيب بانفصام في الشخصية أصعب بكثير من مشكلة ميا. تعبت فاديا كثيراً من أجل مواجهة المجتمع أولاً ومن أجل أن تجعل من ميا الصبية التي أمامنا. وها هي اليوم جدّ فخورة بما أصبحت عليه وتقول “بكيتُ، في البدايات، كثيراً لكن لحظة أمسكت أصبعي بيديها أول مرة، ولحظة ضممتها الى صدري، أدركت أن الله أكرمني بنعمة. رأيتها تنظر في عينيّ وتضحك فابتسمت ولا أزال. وما أقوله ليس “كليشيه”. إنها الحقيقة. فقد عوّدتُ نفسي منذ ذاك الحين على الإصغاء إليها بدل الإصغاء الى من لا يعرف قيمة ما وهبني إياه الله. وأدركتُ أننا كأهالٍ مرآة لأطفالنا”.
فخرٌ للعائلة …ولبنان
“دور العائلة كبير. ودور العائلة الأوسع من حدود البيت أيضاً كبير. وكل العائلة تتباهى اليوم بما أصبحت ميا عليه” تضيف فاديا: “قررنا منذ البداية عدم قبول من لا يتقبل وجود ميا بيننا. قررنا وعملنا وناضلنا وصبرنا وتحدينا وها نحن على برّ الأمان”. هنا تتذكر الوالدة يوم تحدثت ميا في الأمم المتحدة. يومها سمعت من يقول من الدولة اللبنانية: “لم نكن نعرف ان لدينا في لبنان أطفالاً بشجاعة وقدرات ميا”.
ماذا تقول الوالدة الى من يهمّش أمثال ميا؟ فاديا الفخورة بما منحها إياه الله تسترق نظرة نحو ميا وتبتسم قائلة: “خسارة لكم ألّا تفهموا ميا ومن هم مثل ميا”. والى الأهالي الذين يتوقعون ولادة طفل مثل ميا في بيوتهم تقول: “فليأخذ هؤلاء وقتهم. فليبكوا إذا أرادوا. لكن، فليحاولوا اكتشاف الطفل الذي أمامهم، لأنهم حين يفعلون ذلك ستتبدل كل الأمور. أقول لهم أنصتوا الى أطفالكم. ولا تسمحوا لأحلامكم أن تنسيكم أحلامهم. ثمة أشياء جميلة كثيراً في الحياة قد ترونها في البدايات صعبة. الشتول التي تملأ منزلي أصبح لها نكهة مختلفة مع ميا. كلنا لدينا نقاط ضعف قد لا تكون ظاهرة فلنعتد اكتشاف ما هو جميل في الجوامد وفي الأحياء. فابنتنا ميا رفعت رؤوسنا عالياً جداً وهذا يكفينا”.
تحتضن ميا والدتها وتتدلل، فتلمع عيون فاديا بفرح كبير. هي لحظات دقيقة بين الأم والإبنة تساوي الدنيا وما فيها. تُمسك ميا بريشتها وتكمل آخر اللمسات على لوحة ربيعية جميلة وتتابع ما انتهت إليه والدتها: “هناك أطفال، ولدوا مثلي، ليسوا في منازلهم الآن. لماذا؟ لأن أهلهم لا يريدونهم بينهم ولا يهتمون بهم. فكيف يمكن أن يعيش مثل هؤلاء في مجتمع قاسٍ كهذا؟ إنهم يتركونهم في الخفاء بدلا من أن يكونوا بينهم وحولهم ويعرّفونهم على حقوقهم. هؤلاء يمكنهم فعل الكثير بدل أن يُقفل عليهم داخل الجدران الأربعة. لهذا أقول لمن يكتبون القانون: أرجوكم أحموا هؤلاء الأشخاص. دعوهم يعرفون حقوقهم ويدافعون عنها”.
سخط ميا كبير على تهميش مَن يعانون من إعاقة ما (وتشدد الصبية على كلمة إعاقة) وتقول: “السياسيون في لبنان لا يأبهون لنا ولا يتحركون في اتجاه دعم هذه الفئة. وكم أتمنى لو يمكنني أن أحلق مثل العصفور وأطير الى مكان يحترم كل فئات شعبه. أحب السلام لا الحرب وهنا (في لبنان) مشاكل دائمة. وأرى أن المكان (أقله حتى الآن) غير ملائم للمصابين بمتلازمة داون أو التوحد”.
الناشطة في مجتمعها
تطلب الوالدة من ميا أن تكون “إيجابية أكثر”. تنظر ميا حولها. تفكر قليلا وتقول: “بعد انفجار الرابع من آب دُمّر كل شيء حولنا لكن الجيش اللبناني تفقد المكان وتأكد من سلامة كل واحد منا. انما عناصر الجيش تكلموا باللغة العربية لهذا لم أتكلم معهم”. تُطالبها والدتها أن تكون أكثر إيجابية بعد، فتتحدث ميا عن الأكياس التي أعدتها خلال تفشي وباء كوفيد-19 وكتبت عليها بكل اللغات: أرجوكم أبقوا في البيت. أغسلوا أيديكم. أغسلوا وجوهكم. ضعوا الأقنعة. ضعوا القفازات. إنها عبارات تحذيرية”. ميا فرح تتميّز في كلِ مرة يحتاج فيها المجتمع الى من يتقدم في الدفاع عن قضاياه على اختلاف أنواعها. هي بالفعل اسم على مسمى: فرح.
تدعونا ميا لرؤية غرفتها. هنا، في كلِ تفصيل، حكاية. على هذه الطاولة ترسم. الميداليات التي استحقتها في أكثر من مكان وزمان معلقة على الجدران. والتذكارات التي جلبتها من كلِ العالم على الرفوف. واللعبة التي رافقتها منذ كانت طفلة سمّتها وودي. ووودي لا تحب التصوير. ولوحة كبيرة رسمتها بقلبِها قبل الريشة هي لجدتِها ماري. رسمتها يوم فارقت الجدة الحياة. تُحب ميا الصور كثيراً. تُحب الذكريات. وتُحب الإحتفاظ باللحظات الجميلة. تفتح خزائنها. تفتح الأدراج. ندور معها في التفاصيل فندرك مقدار الحبّ الذي تضعه في كلِ الأشياء، الحيّة والجامدة فتتحول بين يديها الى شغف وثقافة وتُحف.
تذكر ميا، بين حين وآخر،اسمين: مروان ورجا. ورجا ومروان. هما الشقيقان والسند في هذه الحياة أيضاً. أما ما ينغّص سعادتها فهو عدم وجود أصدقاء: “كلّ من تعرفت اليهم لا يتكلمون لغات أجنبية فلم نتفاهم معا. والأصدقاء حياة”.
تودّعنا عند الباب مع هدايا تذكارية. لوحات مذيلة باسمِها: ميا فرح.
نعمة من السماء
ما سرّ الـ»كروموزوم الإضافي؟ سؤالٌ يُطرح. متلازمة داون هي واحدة من أكثر من ثلاثة آلاف متلازمة تتسبّب بتأخر عقلي. أهمها متلازمة داون أو «تريزومي 21». وهي نفسها التثلث الصبغي 21. جسم الإنسان يتكون من ملايين الخلايا وتحوي كل خلية 46 كروموزوماً، نصفها من الأم ونصفها من الأب، وتُحدد هذه الموروثات الصفات الوراثية للإنسان من لون الجلد الى لون الشعر وطول القامة ولون العينين… وتحتوي خلايا المصابين بمتلازمة داون 47 كروموزوماً بدل 46 بسبب فك الإرتباط في المورث الرقم 21 أثناء الإنقسام الإختزالي في البويضة أو الحيوان المنوي ما يتسبب بولادة طفل مصاب بمتلازمة داون.
درجات الإصابة ثلاث: ضعيفة ومتوسطة وكبيرة. ودرجة استيعاب الأطفال المصابين تتوقف طبعاً على مدى الإصابة. وهناك أمر آخر يُحدد مدى قدرة هؤلاء على التواصل مع المحيط واستيعابهم وهو حجم تقبل أهلهم لهم. نعم، قبول الآخر هو نصف الطريق والنصف الآخر يحدده التكوين. ومعلوم أن اكتشاف الطفل المصاب غالبا ما يأتي متأخراً، في الشهر الثالث أو الرابع، وكلنا نعرف أننا نصبح قادرين على سماع دقات القلب في الأسبوع الثالث، يعني التخلص من الجنين يُصبح كمن يضع قنبلة ويُغمض عينيه ويهرب. صعبٌ جداً ذلك. ومن يلجأون الى هذا الحلّ هم من ترعبهم النظرات الإجتماعية أو من يخشون على طفلهم الآتي من مجتمع لا يرحم. التخلص من الجنين المصاب بمتلازمة داون معناه قتله. فهل يُعقل أن يتشارك أب وأم وطبيب في قتل جنين سيكون بالتأكيد سعيداً في هذه الدنيا لأنه لا يحمل همّا كما هموم البشر ولا يؤمن بسحق الآخر في سبيل مصالح خاصة. القشور لا تهم هذا الجنين ولن يعرف في حياته سوى الحبّ.
مصابو متلازمة داون يملكون مشاعر وأحاسيس عميقة ويعبّرون بفرح وبغضب وبألم وبحزن… إنهم، كما ميا، مفعمون بالمشاعر القصوى. إنهم بشر لكن بـ «كروموزوم» إضافي.
وتبقى نظرات الشفقة نحو من يولد بكروموزوم إضافي أسوأ ما قد نقترفه. أم؟ أب؟ ينتظران طفل متلازمة داون؟ يكفيكما أن تعرفا أن ملاكاً سيأتيكما من السماء ليحلّ في منزلكما على هيئة طفل لتنسيا كل شيء، كل كل شيء، وتبتسما لهدية السماء. ففي منزلكما حلّت نعمة.