كان الفضاء لا يزال عالماً مجهولاً للبشر في بداية ستينيات القرن الماضي، لم نكن نعلم على وجه التحديد ما هو المصير الذي من الممكن أن يواجهه الإنسان في حال اخترق الغلاف الجوي للأرض بكبسولته الفضائية، إلى أن تشجع أحدهم وقرر أن يكون أول من يقوم بهذه المهمة، بغض النظر عن العواقب، نتحدث عن يوري غاغارين، السوفييتي الذي كان أول من يسافر إلى الفضاء ويدور حول الأرض عام 1961.
يوري غاغارين.. ابتسامته كانت أحد أسباب اختياره للمهمة
ولد يوري غاغارين عام 1936 في أسرة متواضعة لأب نجار وأم تعمل في حلب الأبقار، وعندما غزا النازيون الاتحاد السوفييتي واحتلوا بلدته “كلوشينو”، الواقعة بالقرب من موسكو كان يوري لا يزال طفلاً.
الاحتلال النازي كان وبالاً على أسرة غاغارين، كما كان وبالاً على البلدة بأكملها، وبالرغم من أن اثنين من إخوة يوري قد انتهى بهما المطاف في معسكرات العمل النازية، فإنهما تمكّنا من النجاة في نهاية الأمر.
كذلك نجا يوري من تبعات الحرب، والتحق فيما بعد بالعديد من المدارس التكنولوجية، لكن ما حظي باهتمامه كان نادياً للطيران في ساراتوف، وما إن اجتاز اختبار الطيران الأول حتى كرّس نفسه لشغفه الجديد، وكان يقضي إجازاته الأسبوعية في تعلم الطيران.
انضم غاغارين للقوات الجوية السوفييتية، وأصبح طياراً مقاتلاً، واكتسب الكفاءة في قيادة طائراتٍ مثل الميغ 15. في تلك الأثناء تزوّج من فالنتينا غورياتشيفا، التي أنجب منها ابنتين. عام 1960 اختارت السلطات السوفييتية 20 رجلاً للانضمام إلى برنامج البلاد الفضائي الوليد، وطلبت اللجنة المسؤولة رجالاً بين الخامسة والعشرين والثلاثين، ولا تتجاوز أطوالهم 1.75 سنتم، انطبقت الصفتان على يوري، وكان واحداً من النخبة المختارة لمزيدٍ من التدريبات، ثم بدأت سلسلة من التدريبات البدنية المكثفة، التي تضمنت القفز بالمظلة إلى المياه عشرات المرات، وإجراءات عزل في كبائن تهدف إلى إقصاء كل مرشح قد ينهار تحت الضغط النفسي في الفضاء.
ورغم المنافسة الشديدة نبغ يوري بين أقرانه، سواء بمهاراته البدنية أو بشخصيته الاستثنائية. كان ذا شخصية ساحرة، وكفئاً، ومحبوباً، لعل ذلك يرجع جزئياً للابتسامة التي لم تكن تفارق وجهه.
كانت طاقته الإيجابية عاملاً رئيسياً في اختياره لمهمة فوستوك 1، قبل أسبوع واحد فقط من إطلاقها كان الروس يعرفون أن رائد الفضاء الذي يمثلهم، والذي يوشك أن يصبح مشهوراً للغاية يجب أن يبدو رائعاً أمام الكاميرات؛ لأسباب دعائية في المقام الأول. وكانت ابتسامة غاغارين العريضة مثالية لذلك الغرض.
أول إنسان في الفضاء
في 12 أبريل/نيسان 1961، انطلق الصاروخ من قاعدة بايكونور الفضائية، وبعدها بدقائق كان يوري رسمياً أول أنسان يصل إلى الفضاء الخارجي. يقول هاورد ماكوردي، الخبير في سياسات الفضاء وأستاذ القضايا العامة بالجامعة الأمريكية: “كان غاغارين يتمتع بشخصية ساخرة، وكان محبوباً في مجتمع رواد الفضاء، كان واضحاً أنه لا يهاب شيئاً، وبينما كان (سيرجي) كوروليف كبير مهندسي الرحلة الفضائية يتجرع المهدئات كان غاغارين يجلس مسترخياً في كبسولته”.
في ذلك الوقت لم يكن لدى الخبراء الكثير من المعلومات حول الرحلات الفضائية، وما قد يحدث للإنسان إذا ما قضى بضع ثوانٍ في ظروف انعدام الجاذبية، لذا فقد كان وضع يوري على المحك. دار غاغارين حول الأرض دورة واحدة فقط استغرقت 108 دقائق، وبلغ ارتفاعاً قدره 327 كيلومتراً عند أعلى نقطة، وخلال تلك الرحلة أكل وشرب في كبسولته الفضائية وراقب أنظمة الرحلة.
يقول ماكوردي: “لم يكن لغاغارين سيطرة على مكوكه، ووفقاً لمصادر في ناسا فقد منحت قاعدة التحكم في الرحلة لغاغارين مفاتيح تحكم ليستخدمها في الطوارئ فقط، ولكنه لم يحتج إليها. وبالتالي نستطيع أن نقول إنه كان مجرد مسافر في الفضاء”، لكن رحلة عودة غاغارين لم تكن باليسر الذي تتصف به الرحلات التي نشهدها اليوم.
يقول ماكوردي: “لم يهبط غاغارين بمكوكه فوستوك، بل قفز منه بالمظلة في هبوط يشيب له الولدان”. وقبل أن يهبط حتى كان السوفييت يحتفون بالرحلة الفضائية الرائدة. لقد ضمنت له عودته سالماً شهرة عالميةً.
بطل للاتحاد السوفييتي
كانت الشوارع تُسمى تيمناً به، وقُلد بطلاً للاتحاد السوفييتي، لقبه البعض بلقب كريستوفر كولومبوس العصر الحديث، وسافر حول العالم باعتباره الدليل الحي على نجاح برنامج الفضاء السوفييتي.
زار رائد الفضاء النجم عشرات الدول احتفالاً برحلته المذهلة، لكنه مُنع من دخول الولايات المتحدة الأميركية، لم يُرد الرئيس الأميركي وقتها جون كيندي أن يُشارك في الاحتفاء بإنجاز الاتحاد السوفييتي، الذي أظهر الولايات المتحدة متأخرة في سباق الفضاء، وفقاً لما ورد في موقع How Stuff Works الأمريكي.
وما إن انتهت جولاته الدعائية حتى عاد تدريجياً للطيران، منحته القوات الجوية عدة ترقيات، في أغلبها كانت لإبقائه آمناً على الأرض ومنعه من الطيران، فلم يكن أحد يريد أن يموت البطل القومي للاتحاد السوفييتي في سن صغيرة، لكن نصيبه من الشهرة لم يكن مريحاً، فقد اعتاد غاغارين على الشرب بكثرة، ما أثار قلق رؤسائه.
مع ذلك، فلقد تلقى غاغارين تدريباً للفضاء، واختير رائداً احتياطياً لبعثة سويوز 1، لكن حظه الحسن كان حليفه، فشلت الرحلة عام 1967 بشكل كارثي، إذ لم تفتح مظلة الهبوط، ما تسبب في أول حادثة تودي بحياة رائد فضاء في التاريخ، وهو فلاديمير كوماروف.
أقلع غاغارين في العام التالي عن التدخين، وأعاد تكريس نفسه للطيران، بل وشارك في أعمال هندسة الفضاء، على أمل المساعدة في تصميم مركبات فضائية قابلة للاستخدام مرات متعددة. وعام 1968 أقلع الطيار ورائد الفضاء الشهير في رحلة روتينية تدريبية على متن طائرة ميغ 15 UTI. بعد ذلك بفترة صغيرة تحطمت الطائرة قرب بلدة كيرزاتش، توفي يوري غاغارين إثر الحادث ومعه مدرب الطيران فلاديمير سيريوغين. وقتها كان عمر غاغارين 32 عاماً فقط. على الفور سارع السوفييت للتستر على الحادث، واستطاعوا التعتيم على تفاصيل الحادث لعقود، نظراً لعدم وجود تفسيرات مقنعة، فقد انتشرت نظريات المؤامرة حول اختفائه، لكن عام 2013 ظهرت أدلة جديدة بفضل التحقيقات التي أجراها أليكسي ليونوف، رائد الفضاء السابق الذي لطالما شغله مصير صديقه وزميله رائد الفضاء.
وما الذي تضمنه تفسيره (غير المؤكد) للحادث؟ خلل في أنظمة التحكم في الملاحة. ما حدث أن طائرة سوفييتية من طراز Su 15، أكبر من طائرة ميغ 15 التي كان يركبها البطل، اخترقت المجال الجوي لطائرة غاغارين، أفقد ذلك غاغارين السيطرة على طائرته، ما أودى في النهاية بحياته.
لعل الحرج المصاحب لخسارة بطل قومي حياته بسبب خطأ بسيط كان أكبر من أن يُعترف به علناً، أو ربما لم تُرد السلطات -كما توقع ليونوف- أن تُعلن أن “خطأً” مثل ذلك وقع قرب موسكو. ربما لن نعرف أبداً على وجه اليقين ما حدث لذلك البطل القومي، لكن ما نعرفه حقاً أن رحلة غاغارين الأولى والوحيدة إلى الفضاء تركت أثرها على عالمنا.