في وقت كانت العلاقة بين لبنان والسعودية قيد المعالجة لإخراجها من تداعيات الإنتكاسة التي أصابتها من جراء
تهريب المخدرات عبر منتجات زراعية (شحنة الرمان الملغوم) ، داهمتها إنتكاسة ثانية تفوقها أهمية وحساسية وناتجة عن "دبلوماسية ملغومة" وتصريحات أدلى بها وزير الخارجية شربل وهبه (الى قناة "الحرة") واعتُبرت مسيئة بحق السعودية ودول الخليج. كانت هذه التصريحات بمثابة "قنبلة دبلوماسية" فجرها وهبه عن طريق الخطأ وفي لحظةإنفعال. ولكن الخطأ الذي وقع به وزير خارجية تصريف الأعمال، كان "جسيما وقاتلاً"، فأدى الى هبوب عاصفة سعودية وخليجية وضعت العلاقات مع لبنان الرسمي على المحك. وهذه العاصفة الدبلوماسية واكبتها عاصفة سياسية وإعلامية في لبنان عكست حجم الإستياء من تصريحات وهبه "غير المسؤولة" من جهة، وعمق العلاقات والروابط بين لبنان ودول الخليج من جهة ثانية. ولم يكن أمام وهبه في هذه الحال إلا الإعتراف بالخطأ وتقديم الإعتذار والإستقالة من تصريف الأعمال، خصوصاً بعدما رفع رئيس الجمهورية الغطاء عنه وتنصل من مضمون وتبعات رأيه الشخصي.
وكانت هذه الإستقالة كافية لسحب فتيل الأزمة وتهدئة الموقف الخليجي... فيما كانت هذه الأزمة بمثابة "صدمة إيجابية" تساهم في وقف المسار الإنحداري للعلاقات اللبنانية ـ السعودية وتبديد غيوم كثيرة تلبدت في سماء هذه العلاقات، وحان وقت العمل على إزالتها... وفي تفاصيل وتطورات هذه "الأزمة ـ العاصفة"، حصل التالي:
في إطلالة أعلامية نادرة، ظهر وزير الخارجية شربل وهبه على قناة "الحرة" في مقابلة ساجل فيها شخصيات لا صفة سياسية أو رسمية لها... وفي لحظة إنفعال دفاعاً عن رئيس الجمهورية الذي تعّرض للشتيمة والإهانة، خرجوهبه عن "دبلوماسيته" وهدوئه وقال إن "الدواعش أتت بهم دول أهل المحبة والصداقة والأخوة. فدول المحبة جلبت لنا "الدولة الإسلامية" (داعش) وزرعوها لنا في سهل نينوى والأنبار و تدمر. و حمل وهبه الرياض مسؤولية قتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول، كما تفوه بكلام عنصري واصفاً أهل الخليج بـ"البدو"...
لم يتأخر رد فعل السعودية التي أظهرت إستياء وغضباً، فاستدعت السفير اللبناني وأبلغته مذكرة إحتجاج رسمية
على تصريحات مسيئة تتنافى مع أبسط الأعراف الدبلوماسية، ولا تنسجم مع العلاقات التاريخية بين الشعبين الشقيقين...
وذهب رد الفعل السعودي (الذي لاقته ردود مماثلة في الإمارات والكويت والبحرين) الى حد التلويح بأزمة دبلوماسية وإجراءات عقابية وتحديد المطلوب في نقطتين: إعتذار لبنان الرسمي... وإقالة وزير الخارجية.
بدا الرئيس ميشال عون مستاء ومتفاجئاً بما حصل، وبادر الى استدعاء وهبه لاستيضاحه ما حدث وكيفية حصول الحوار وخلفيات تصريحاته. وصل وهبه الى قصر بعبدا صباح الثلاثاء بعيدا عن الإعلام وتوجه الى رئيس الجمهورية بالقول: "كلامي أتى كردة فعل شخصية في لحظة غضب، ولقد تم إستفزازي ولم أكن قادراً على ضبط ردة فعلي، وأنا أتحمل مسؤولية الكلام الذي قلته والخطأ الذي حصل، ومستعد لأي قرار يؤخذ بحقي"... وأقر وهبه بالخطأ الذي وقعفيه، من دون أن يكون لديه نية الإساءة، خصوصاً وأنه يعمل منذ أشهر على ترطيب وتحسين العلاقات اللبنانية ـ الخليجية... وكان رد رئيس الجمهورية بإبداء التفهم للأجواء التي تسببت بكلام وهبه، ومكتفياً بالقول إن "الموضوع بات بين يديه وسيبحث به"...
وبعد ساعات، صدر عن رئاسة الجمهورية بيان عبّر فيه عن حرصه على العلاقات مع الدول الخليجية والسعوديةبشكل خاص، واعتبر أن التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية تعبّر عن رأيه الشخصي ولا تعكس بأي حال من الأحوال موقف الدولة اللبنانية ورئيسها. وبعد هذا البيان الرئاسي، أصدر وهبه بيانا قال فيه إن بعض العبارات غير المناسبة التي صدرت عنه بمعرض الإنفعال هي من النوع الذي لا يتردد في الإعتذار عنه، وأنه لم يقصد الإساءة...
ولكن لا بيان رئاسة الجمهورية ولا بيان وزير الخارجية كانا كافيين الحتواء الأزمة، وبدا واضحاً أن السعودية التي تابعت الموضوع على أعلى المستويات ومن قبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان شخصياً، حددت "الثمن" أو الشرط لتجاوز ما حصل، وهو إقالة وزير الخارجية وصدور إعتذار رسمي منه.
وبالفعل أعلن وهبه، وفي ساعة متقدمة من ليل أمس، موقفه عبر تغريدة له على تويتر جاء فيها: "أتوجه بالإعتذار من دول الخليج عامة ومن المملكة العربية السعودية خاصة، مملكة الخير والتسامح، وأعلن توجهي غداً (اليوم) الى رئيس الحكومة للتخلّي عن مهامي في وزارةالخارجية والمغتربين".
لم يكن أمام الوزير وهبه، أمام ضغوط دبلوماسية وسياسية وإعلامية هائلة، ولتفادي مزيد من التأزم بين لبنان والخليج، إلا هذا الخيار، خصوصاً في ظل غياب أي مظهر من مظاهر الدعم له بعدما سحب الرئيس عون الغطاء السياسي وتنصل من مواقفه، وفي وقت إلتزم حزب الله الصمت السياسي المطبق ونأى بنفسه عن هذا الموضوع...
شربل وهبه السيئ "الحظ والطالع" الذي ُعيِّن وزيراً قبل ساعات من إنفجار مرفأ بيروت، وقبل أيام من إستقالةحكومة دياب، وقع في خطأ دبلوماسي وسياسي جسيم ودفع ثمنه:
- أخطأ في التعبير والكلام عندما أوحى بإشارته الى "البدو" أنه يقول "شتيمة" وكلاماً عنصرياً ويلعب على وتر الصراع الحضاري بين المشرقي والخليجي أو "البدوي".
- أخطأ في المضمون السياسي عندما حمل دول الخليج من دون أن يأتي على ذكرها مسؤولية خلق تنظيم"داعش". وبدأ يتحدث كمعلّق أو محلل سياسي وليس كوزير خارجية، أو يتحدث كوزير خارجية محور الممانعة متبنياًرأيه في موضوع "داعش".
- أخطأ في تقدير العواقب لمثل هذا الكلام، وما يمكن أن يتسبب به من أذى للعلاقات اللبنانية ـ السعودية الهشة التي
لا ينقصها المزيد من الإنتكاسات، وما يمكن أن يلحقه من ضرر على مصالح آلاف اللبنانيين في السعودية والخليج.
- أخطأ خصوصاً في التوقيت السياسي لمثل هذه التصريحات التي لا تنسجم مع المحاولات التي بدأها الرئيس عون لتصحيح وتحسين العلاقات مع السعودية، ومن خلفية السعي الى إتفاق معها حول بديل للحريري في رئاسة الحكومة الجديدة... كما أنها لا تنسجم مع التطورات والأجواء الإقليمية المستجدة التي تفيد بأن العلاقات بين السعودية وكل من إيران وسوريا سائرة الى حوار وتقارب وفتح صفحة جديدة، وانطلاقاً من إقدام السعودية على إعادة النظر في سياستها وعلاقتها وتنفيذ "إعادة تموضع" بفعل التغيير الذي حصل في الرئاسة والسياسة الأميركية، واستباقاً لاتفاق أميركي ـ إيراني جديد.
اليوم تُطوى الصفحة والأزمة... من جهة زيارات تضامن واستنكار تقوم بها الى السفارة السعودية الأحزاب والقوى
الممثلة لكل الطوائف والمناطق (مع مشاركة الفتة من جانب حركة "أمل") ، ومن جهة ثانية زيارة أخيرة للوزير وهبه الى السراي الحكومي لتقديم إستقالته وطلب إعفائه من مهامه، وإذذاك ينطلق البحث عن وزير للخارجية بالوكالة، بعدما
كان وهبه شغل هذا المنصب إثر استقالة الوزير ناصيف حتي قبل يوم من إنفجار بيروت. والبحث في الأسماء انطلق من
وزير البيئة دميانوس قطار، ولكن المشكلة أنه متوقف عن العمل الوزاري وعن مهمة تصريف الأعمال، وأن علاقته مع الرئيس عون سيئة، فيما علاقته مع الرئيس دياب مضطربة بعدما اهتز فيها عامل الثقة، لأن قطار كان البادئ في افتتاح مسلسل الإستقالات الوزارية بعد انفجار بيروت، ومن دون التنسيق مع رئيس الحكومة... وبالتالي، فإن البحث تحول الىأسماء الوزيرات الثلاث لاختيار واحدة منها: نائبة رئيس الحكومة وزيرة الدفاع زينة عكر، ووزيرة العدل ماري كلود نجم، ووزيرة المهجرين غادة شريم...