أجرى التلفزيون الرسمي السعودي منذ ايام، ولمناسبة مرور خمس سنوات على إطلاق "رؤية 2030 ،مقابلة مع ولي
العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، تضمنت مواقف في الشؤون السياسية الخارجية، وبرز فيها تحولان:
- الأول: هو التحول في طريقة مخاطبة الولايات المتحدة مقارنة بما كان عليه الوضع أيام دونالد ترامب، وفي
طريقة تناول موضوع العلاقة معها من زاوية تعكس "حذرا وعدم إرتياح"، ويصل الأمر الى إظهار شكوك وارتياب
حيال توجهات الإدارة الأميركية في المنطقة وانعكاسها على العلاقات الثنائية التي تميّزت في السنوات الأربع الماضية
بـ"الزخم والحرارة"... فقد أقر بن سلمان بوجود خلافات مع إدارة بايدن وحاول إظهار نوع من الندية في حاجة كل من
الطرفين الى الآخر عندما قال إن الولايات المتحدة ما كانت لتكون على ما هي عليه اليوم لولا النفط السعودي... كما
حاول الإيحاء بوجود خيارات بديلة لديه في حال أرادت واشنطن التخلي عنه عندما أشار الى إعلان كل من الصين
وروسيا والهند السعودية شريكاً استراتيجياً لها.
- الثاني: هو التحول في اللهجة تجاه إيران مقارنة بما كان يقوله بن سلمان في السابق وإشاراته المتكررة الى أنه لا
يمكن إجراء حوار مع إيران... فقد تناول ولي العهد موضوع العلاقة مع إيران من زاوية إظهار النيّة والرغبة بتحسين
العلاقات، ويصل الأمر الى حد التودد والتفهم بالقول إن "إيران دولة جارة ونريد أن تكون لدينا علاقة طيبة ومتميّزة
معها... لا نريد أن يكون وضع إثران صعباً، بالعكس، نريد إيران مزدهرة. لدينا مصالح فيها ولديها مصالح في السعودية
لدفع العالم والمنطقة الى الإزدهار"... وهذا الكلام الإيجابي عن إيران لم تخفف من وقعه إشارة بن سلمان الى الإشكالية
المتعلقة بـ"تصرفات إيران السلبية التي تقوم بها، سواء عبر برنامجها النووي أو دعمها للميليشيات الخارجة عن القانون في بعض دول المنطقة، أو برنامجها للصواريخ البلاستية.
وهذه الرغبة في الإنفتاح على إيران ترافقت مع رغبة أخرى مكّملة، هي إنهاء الحرب في اليمن. فقد أعرب بن
سلمان عن الأمل في أن يجلس الحوثيون الى طاولة المفاوضات للتوصل الى حلول تكفل حقوق جميع اليمنيين وتضمن مصالح دول المنطقة. وهذا يؤكد التوجه الذي بدأته السعودية بعد وصول بايدن الى البيت الأبيض، بإطلاقها مبادرة إنهاء الحرب وعن قناعة هذه المرة بضرورة إقفال ملف حرب اليمن الذي يستنزفها، من دون أن تلوح إمكانية ربح أو حسم الحرب عسكرياً، وفي ظل ضغوط أميركية مستجدة لوقف الحرب والذهاب الى مفاوضات الحل السياسي.
في إسرائيل، القلقة أيضا من سياسات بايدن الى درجة إرسال وفد أمني استراتيجي كبير الى واشنطن للحصول على تطمينات وضمانات، متابعة واهتمام بتطور الموقف السعودي من ضمن تطورات جارية في المنطقة تقيّد إسرائيل أكثر
وتمس بمصالحها. وفي هذا السياق، أشارت تقارير إسرائيلية الى أن السعوديين الذين قطعوا العلاقات الدبلوماسية مع طهران عام 2016 ،بدأوا مؤخرا مفاوضات سرية مع الإيرانيين وبتشجيع من واشنطن، وأن بن سلمان لا يملك الكثير من "رفاهية المناورة" بعدما وصل مستوى العداء تجاهه في واشنطن الى الذروة (رفع السرية عن تقرير الإستخبارات الأميركية الذي اتهم بن سلمان بقتل خاشقجي، واتجاه الى رفع السرية عن تقرير أعّده مكتب التحقيقات الفدرالي عام
2016 حول دور السعودية في هجمات 11 أيلول) . ولذلك يفعل بن سلمان ما يفعله الآخرون في المنطقة، ويكيّف نفسه
مع الواقع المتغيّر. هو يفترض بأن العودة الى الإتفاق النووي قريبة، ولذلك يعمل على حماية نفسه ويتوجه الى هدنة
مع الإيرانيين، وبالتالي قإن من عول على جبهة إسرائيلية ـ عربية ضد إيران يخيب ظنه الآن. فالأميركيون عائدون الى
الإتفاق مع الإيرانيين، وهذا هو قرارهم الاستراتيجي، وشبكة الأمان الأميركية المعتادة تشهد إهتزازاً...
وفي لبنان، المعلّق وضعه على خطوط التوتر العالي في المنطقة، هناك أيضا إهتمام بالتغيّرات السعودية، ولكن من
زاوية أخرى مرتبطة بمدى إنعكاسها على لبنان وأزمته ومستقبله... وهذا التغيير السعودي الذي يعني لبنان ويطاله،
ظهر في "تطورين ـ مؤشرين":
1-الحوار الإيراني ـ السعودي السري في بغداد الذي عقدت أولى جلساته مطلع نيسان ويمكن أن تُعقد الثانية بعد
رمضان على إيقاع التطورات اليمنية (التصعيد الحوثي لحسم معركة مأرب) واللبنانية (القرار السعودي بمنع المنتجات اللبنانية) . هذا الحوار تناول عدة ملفات وقضايا أساسية، أولها ملف اليمن ومفاوضات فيينا التي ترغب السعودية بتوسيع مروحتها ودخول أطراف إقليمية فيها، وملف أمن الخليج وخصوصاً الأمن البحري... ولكن المفاجأة كانت في الملف اللبناني الذي لم يظهر السعوديون حياله إكتراثاً وبدوا غير مهتمين بالأزمة الراهنة والحكومة الجديدة من يرأسها، طالما الوضع في لبنان على ما هو عليه من سيطرة حزب الله وفساد الطبقة السياسية وضعف الحلفاء...
2-القرار السعودي بمنع دخول ومرور المنتجات الزراعية اللبنانية الى السعودية وعبرها الى دول الخليج بسبب ضبط عملية تهريب للمخدرات وضعت في شاحنات محملة بالرمان الملغوم... وهذا القرار في ظاهره "أمني ـ اقتصادي"
ولكنه في عمقه قرار سياسي يعكس من جهة وجود رغبة لدى السعودية في ممارسة الضغط على لبنان أكثر من رغبة
المساعدة، ومن جهة ثانية وجود توجه الى تفعيل وتوسيع سياسة التضييق على لبنان في إطار سياسية التضييق
والضغوط التي تُمارس ضد حزب الله الذي يسيطر على الدولة وحدودها ويخترق أجهزتها الأمنية.
ترى مصادر في بيروت أنه يحق للسعودية إتخاذ ما يلزم من إجراءات لحماية أمنها ومصالحها، ولكن قرارها في معاقبة الاقتصاد اللبناني ورد فعلها على عملية تهريب ليست الأولى من نوعها، إنطوى على مبالغة ويعكس موقفاً وقراراً سياسياً بإبقاء لبنان خارج دائرة إهتمامها ودعمها، وبإبقاء ربط نزاع مع إيران حول الورقة اللبنانية. وربما تفكر السعودية في إجراء مقايضة بين ورقتي اليمن ولبنان على طاولة الحوار مع إيران، على قاعدة "التهدئة في اليمن مقابل التسوية في لبنان، والتسهيلات الإيرانية في اليمن مقابل التسهيلات السعودية في لبنان"...