يُسهب قاسم علام في رواية تفاصيل «الرحلة» التي قادته إلى عمله الحالي، عامل نظافة في شركة «سيتي بلو»: «عملت مشرفاً على مطعم الأطباء في مستشفى الحريري الحكومي تسع سنوات، وتوقفت بعدما بدأ تعثر دفع الرواتب للمتعاقدين. اشتغلت عنصر مكافحة في الريجي لسنة إلى أن صرفت الإدارة 40 موظفاً كنت من بينهم. بعدها، عملت مساعد أستاذ في مستشفى الكفاءات الاجتماعية للاحتياجات الخاصة خمس سنوات إلى أن وجدت نفسي بين 35 مصروفاً قبل 17 تشرين الأول بأيام». كل عمليات الصرف هذه «لم تترافق مع تعويضات صرف أو غيرها من الحقوق». في أيلول الماضي، بدأ علام عمله الجديد. «بالتأكيد، كثر من حولي لا يتقبلون فكرة أنني صرت عامل نظافة»، المهنة «الموصومة» في المجتمع اللبناني.
«صرنا فقراء، علينا أن نعترف بذلك»، يقول. لكنّ واحدة من الصعوبات التي تواجهه هي أن يشرح للناس أنه لا يجد حرجاً في عمله الجديد، لأن «الناس بتحب البرستيج». وهو يتقاضى مليوناً و200 ألف ليرة شهرياً، «والحمد لله أنني لا أزال عازباً. أي عاقل يتزوج في ظروف كهذه؟».
الوضع أكثر صعوبة بالنسبة إلى ربّ العائلة حسن حمود. «ماذا يفعل المليون و200 ألف ليرة في مثل هذه الأحوال؟»، يسأل، ويجيب: «أسدد بدل إيجار المنزل. أما الأكل فمندبّر حالنا». لحمود «رحلة» مشابهة لـ«رحلة» علام: «عملت في قسم الصيانة في الجامعة الأميركية، بلا تأمين أو ضمان اجتماعي. قدمت استقالتي وسافرت لأجرب حظي، لكن ما مشي الحال. عملت بعد عودتي موظف أمن في شركة سوكلين. بعدما أُقفلت الشركة، نُقلنا إلى سيتي بلو وصرت عامل نظافة».
علام وحمود من بين آلاف قادتهم عمليات الصرف الجماعي في مئات الشركات إلى تقديم طلبات عمل لدى «سيتي بلو» بعدما «هجرها» نحو 1200 عامل نظافة أجنبي في الأشهر الأخيرة من عام 2020 بعد تدنّي قيمة الليرة اللبنانية. ما إن أعلنت شركتا جمع النفايات، «رامكو» و«سيتي بلو» عن حاجتهما إلى عمال نظافة، حتى «اصطفت طوابير من المتقدمين إلى العمل»، بحسب مدير «رامكو» وليد بو سعد. إذ «تقدم نحو 1200 شخص للعمل، بقي منهم 400 فقط. والغالبية منهم عملوا أسبوعاً أو اثنين قبل أن يتركوا». والسبب؟ «العمل جديد على اللبنانيين وهو متعب وليس لكثيرين طاقة عليه».
آلاف تقدموا للعمل لدى شركتَي جمع النفايات في مهن كانت تقتصر على عمال أجانب
بدوره، مدير شؤون العمال اللبنانيين في «سيتي بلو» عصام حجار لفت إلى أن الإقبال على تقديم الطلبات «كان كبيراً في البداية. تقدم نحو 800 شخص للعمل، بقي منهم 300»، مشيراً إلى أن «كثيراً من العمال اللبنانيين غير جديين. يتغيّبون كثيراً ويهدرون الوقت على الهاتف وبدهم عزيمة على الشغل».
تشكو الشركتان من استقالة كثيرين بعد فترة وجيزة من انضمامهم إلى العمل «رغم بعض التحفيزات كزيادة الراتب، التسجيل في الضمان بعد 3 أشهر فضلاً عن التأمين من مخاطر العمل والأمراض المهنية»!
أسباب «الفرار» كثيرة، بحسب «الفارين»، منها الدوام الطويل ( 9 ساعات تمتد أحياناً إلى 11 ساعة)، والرواتب التي لا تتناسب مع الارتفاع المتصاعد لكلفة المعيشة، إضافة إلى النظرة المجتمعية التي تُعيب العمل في مجال النظافة. مع العلم أن «الشركة تأخذ في الاعتبار المكان الذي يرغب العامل العمل به»، بحسب حجار، موضحاً أن «من لديه حساسية من العمل في منطقة قريبة من سكنه نؤمن العمل له في منطقة أخرى مع إمكانية المبيت»، فيما يشير بو سعد إلى أن من يتقدم إلى هذا العمل «يفترض أن يكون قد رمى موضوع الحرج خلف ظهره».
أحد العمال ممن التحقوا بإحدى الشركتين حديثاً يؤكد أن «كنس الطرقات أهون من العتالة أو من حمل الباطون». لكن، «بسبب نظرة الناس أضطر إلى المبيت في الشركة في بيروت حيث أعمل بعيداً عن ضيعتي في الشمال. هنا لا يعرفني أحد»، يقول. ويؤكد: «الشغل مش عيب. بغير بلدان عمال النظافة هم من أهل البلد أنفسهم. لكن نحنا مش معودين. يمكن بدنا وقت».