لبنان (والمشرق) وفقدان المرح
2021-04-28 14:56:10
ينتشر وعي مباغت باحتمال اندثار لبنان. المحو الصامت لما كان يشكّل لبنان مستمر بلا هوادة، على الأقل منذ 16 عاماً. الاندثار البطيء لكينونته يجعله شيئاً فشيئاً بلداً بلا قوام.
يحدث هذا بالتوازي مع إذابة ثقافية وحضارية دؤوبة لحواضر المشرق العربي كله.. المقتلة الفظيعة لملايين العراقيين والسوريين وتراكم المجازر وحملات التطهير والإبادة حدثت تقريباً بتقبّل بليد من العالم. ما حدث في هذين البلدين في عقدين فقط، جعل العراقيين والسوريين الذين تتجاوز أعمارهم الخمسين عاماً موقنين أنهم في بلاد مختلفة جذرياً عما كانته قبل ثلاثين عاماً، غريبة تماماً عن نفسها. لقد اختفت إلى حد بعيد فكرة "الوطنية" ودولتها لصالح عودة مخيفة إلى تواريخ مندثرة وغير حقيقية وأقرب إلى تصورات دينية ميتافيزيقية متناقضة ومنقطعة عن العالم.لبنان دخل في مسار مشابه، وإن بدموية أقل بكثير.
وعلى الدرب نفسه، الفلسطينيون أيضاً انتهوا كـ"قضية". وهم الآن مجرد تجمّعات سكانية مغلقة، داخل دولة إسرائيل. مصيرهم يرشدنا فعلياً إلى مصير مشابه سيصيبنا على نحو ما. خسرنا نحن والفلسطينيون ما نسميه "الغنائية الكبرى" للتحرر والتقدم.
من هم في الجزيرة العربية أو وادي النيل أو المغرب العربي الكبير، لا يدركون تماماً أن هذا كله هو الحدث الأشد تأثيراً في التاريخ العربي منذ الفتح العثماني. وأعمق أثراً حتى من "ضياع فلسطين" بل هو التتويج الفعلي لمعنى "الضياع". ببساطة، ما أصاب بغداد ودمشق وبيروت بوصفها مدن الثقل التاريخي والحيوي، يدلنا على شراسة التذويب الحضاري الذي أفقد شعوباً لحمتها وهويتها وذاكرتها المشتركة.بتقديري، ليس الدمار العمراني ولا التفسخ الاجتماعي أو التلاشي الاقتصادي ولا حتى التعفن السياسي والأخلاقي ولا الانحطاط الثقافي وتراجع مستوى المعرفة والوعي عند النسبة الأكبر من السكان هو ما يدلنا على هول الكارثة. بل فقدان الذات هو المرعب.
ماذا نقصد بفقدان الذات؟الظاهرة الأبرز في بيروت منذ سنتين على الأقل هو غياب الضحك. نعم، الضحك، كمؤشر "سياسي" وثقافي، كذات مميزة. حدث فقدان للمرح الفعلي من الحياة العامة. فما جرى هو شعور اللبنانيين أن بلدهم يندفن فعلياً تحت ركام من الانهيارات المتتالية. مضاف إلى هذا، الشعور بالعجز والهزيمة. لقد فقدوا ما كان يميزهم عن "طالبي الجنة" الشمولية، إن عبر البعثين السوري والعراقي أو عبر الخمينية الإيرانية.كان واحدنا إذ يخرج من بيروت ويزور سوريا الأسد أو عراق صدام ثم عراق الميليشيات، يشعر بانقباض فظيع في جسده، وبثقل الهواء وباختناق العبارات.. ويرى الوجوه الكامدة والفضاءات العامة الكئيبة الفائضة بالتوجس والحذر. كان يدرك أهمية فقدان المرح والرحابة والخفة والتلقائية وانبساط السجية. الآتون أيضاً إلى بيروت كانوا على الفور يعرفون أنهم يباشرون ميزة المرح وينغمسون به أو يطلبونه لأنفسهم.
بل وأبعد من غياب المرح، ماتت السخرية نفسها. آخر حفلة هزء حدثت في خريف 2019، كاحتفالية وداعية مشؤومة للسخرية بما هي سلاح سياسي ضد الإرهاب والتسلط. هذا ما حدث بالضبط سابقاً في سوريا والعراق، حيث حلّ التعصب المتجهم وحده.
فقدان الإحساس بالمرح، أو ما يسمى "سعادة الوجود"، يختلف جذرياً عن الضحك الحماسي للمتعصبين، ويناقض بطبيعة الحال سلوك الجماعات المصابة بهذيان عصابي يجعلها تتوقع لنفسها فعلاً ذاتياً عظيماً لم ولن يتحقق (الشيعة أو الموارنة مثلاً). توالي اليوميات على نمط احتراق مستشفى بمن فيه ببغداد، وانفجار بيروت شبه النووي، ولا عدّ لأحداث مشابهة أكان برميلاً متفجراً يسقط من السماء أو رشّ شعب بالسلاح الكيماوي.. يحيل أي ضحك إلى هستيريا وحشية.في نصف قرن، شهدنا احتلالين سوري وإسرائيلي، وحرباً أهلياً، وثورتين (2005- 2019)، وديموقراطية، وفاشيات، وإرهاب، وهجرات جماعية. وكان كل ذلك غير كافٍ لتبديد ذاك المرح.. أو ذاك النمط من الضحك العمومي.
ما يجعل لبنان قابلاً للاندثار هو هذا: التبديد المنظم للمرح. لتحل مكانه تلك الشراسة في محو الذات والتذويب الحضاري والثقافي.
بالمحو الصامت للذاكرة ولكينونة لبنان، تنتهي "سعادة الوجود" لأفراده. وبهذا المعنى، اليأس الذي يسيطر على أغلب اللبنانيين، ليس بسبب فقدان المستقبل بل لضياع الماضي أيضاً.
* كتبت هذه المقالة بوحي من قراء "الضحك والنسيان" مجدداً، لميلان كونديرا.
وكالات