لم يبق من سوق النجارين في صيدا القديمة الا اسمه، أقفلت غالبية المحال فيه ولم يصمد حتى اليوم سوى اثنين بعدما كان يعجّ بالحركة والحياة. وقد جاءت الازمة الاقتصادية وجائحة “كورونا” لتدقّ المسمار الاخير في نعش هذا السوق الاثري والتراثي، الذي طالما افتخر زوار المدينة بالشراء منه والتقاط الصور التذكارية في أوج عصره الذهبي.
والسوق العتيق ذو القباب الحجرية الذي يمتد من مدخل كنيسة الروم الأرثوذكس “مار نقولا” شرقاً إلى سوق الحيّاكين غرباً، لم يصمد طويلا أمام الأزمة. لم يبق فيه سوى النجّارَين عبد الماجد الملاح ومحمد الشامية، بينما احمد ابو ظهر يفتح يوماً ويقفل شهراً، ويترنّح الجميع تحت ضائقة معيشية خانقة، يعضّون على وجعهم بصمت وصبر معاً، وقناعتهم ان صمودهم بوجه الاقفال فيه حفاظ على ارث الآباء والاجداد وليس مجرد مهنة.
“لا بيع.. ولكننا نفتح ابواب المحال وننتظر رزقنا يومياً”، يقول الملاح لـ”نداء الوطن” وهو يتأفّف من الركود الذي وصل اليه حال السوق اليوم، قبل ان يضيف: “ارتفعت اسعار الخشب ومعه ثمن كل المنتوجات ولم تعد الناس قادرة على شراء الا الضروري بل تبحث عن لقمة عيشها. أصبحنا نعمل حسب التوصية ونقبض عربوناً من الزبون سلفاً قبل البدء بالعمل، كي لا نخسر فوق طاقتنا في حال عاد وتراجع عن الشراء”، مردّداً بحسرة: “منتوجاتنا باتت للفرجة أكثر من كونها منتوجات للاقتناء في البيوت، ونخشى عليها من الانقراض، خاصة في ظل انتشار ورواج الأدوات البلاستيكية المستوردة منذ عقود ومن الغلاء اليوم ارتباطاً بسعر الخشب”.
داخل السوق تتكامل الأبواب الخشبية بلونها الكرزي مع الحجارة الأثرية والقناطر والشبابيك، وتتوسّطها محال تجارية، وقد توحّدت في أبوابها ونقشها ولونها، بعدما رمّمته “جمعية محمد زيدان لإنماء صيدا” بالتعاون مع بلدية المدينة، ما أعطاه رونقاً مميزاً، لكن تحوّل مجرّد لوحة بلا حياة. ويقول محمد الظريف لـ”نداء الوطن”: “كان جدّي يملك محلاً هنا ولي مع والدي ذكريات كثيرة وجميلة، كانت أصوات أدوات النجارين تمتزج بموسيقى أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وسيد مكاوي، كانت الحياة بسيطة وغير معقّدة مثل اليوم، للاسف السوق اصبح مجرد ذكرى والحبل على الجرّار لأنّ الدولة لم تقم بدعم المحترفين والحفاظ على هذه التراث”.
وتباع في السوق كل المنتوجات الخشبية المصنوعة يدوياً، من قباقيب للزينة والحمام والكراسي الخشبية القديمة، “طبليات” قديمة، مناخل العجين والزعتر، طابع المعمول (كعك العيد)، شوبك العجين، مدقّات وأجران الثوم و”طبالي” للعجين، حيث يؤكد عبد الكريم الكبش أنّ “منتوجات السوق التي تحوّلت زينة في المنازل وعلى الشرفات والحدائق اصبحت اليوم بعيدة المنال مع الغلاء، ونتّجه نحو الأسوأ”، منوّهاً بـ”المبادرات الفردية والمؤسساتية بترميم الحارات والاسواق في صيدا القديمة، ولكن للاسف لم يتمّ تطوير المهن لكي تتماشى مع تطوّر الأسواق، وبقي الاهتمام مقتصراً على الحجر من دون البشر”.