قال لبنانيون عايشوا أهوال الحرب الأهلية التي شهدها لبنان، إن ما يعانونه في هذه الأيام من الفقر، والجوع، والفساد، أسوأ مما عايشوه أيام الحرب، التي خلّفت نحو 150 ألف قتيل في البلاد.
من بين هؤلاء اللبنانيين، عبلة باروتا التي اعتادت هي وعائلتها أيام الحرب الأهلية الاحتماء من القذائف كلّما اشتدت المعارك، لكنها اليوم وفي خضم أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها لبنان، تقول إنها لا تعرف كيف تحمي نفسها من الجوع والفقر وفساد الزعماء، وفقاً لما قالته لوكالة الأنباء الفرنسية.
عبلة التي تبلغ من العمر 58 عاماً، تعمل ربّة منزل، وتعافت خلال الأشهر الماضية من إصابة بالغة جراء انفجار المرفأ القريب من منزلها، وقالت إنه “أثناء الحرب، حين كنا نسمع القصف، كنا نختبئ في المنزل أو الملاجئ. لكن اليوم كيف نختبئ من الجوع؟ من الوضع الاقتصادي؟ من كورونا؟ من زعمائنا؟!”.
“الموت ببطء”
أشارت السيدة إلى أن مخاوف اللبنانيين أيام الحرب كانت “أن نموت جراء قذيفة أو قناص، لكن اليوم كل شيء يخيفنا”، تصمت قليلاً ثم تضيف بحسرة: “أن يموت الفرد جراء قذيفة أفضل، أقله لا يعاني، بينما نعاني اليوم ونموت ببطء”.
وفي منزلها الذي أعيد ترميم ما تضرّر منه بفعل انفجار مرفأ بيروت في آب الماضي، والواقع في الطبقة الأولى من مبنى قديم في محلة مار مخايل المتاخمة للمرفأ، تقول عبلة “رغم بشاعة الحرب، كنا مرتاحين. لم نعش مثل هذه الأزمة الاقتصادية والقلق. ماذا سنأكل غداً وماذا سنفعل؟ لا شيء من ذلك كله.. كانت حاجاتنا مؤمنة”.
تضيف الأم لثلاثة أولاد: “أحياناً، لا أقوى على النوم خلال الليل” جراء القلق.
على غرار عبلة، يردّد كثر في جلساتهم وعلى شاشات التلفزة أن ما يشكون منه اليوم تحت وطأة الانهيار الاقتصادي منذ عام 2019 والتدهور الجنوني لليرة والخوف من العوز، لم يشهدوه حتى في أسوأ أيام الحرب الأهلية (1975-1990) التي يحيي لبنان الثلاثاء الذكرى الـ46 لاندلاعها.
تلك الحرب بدأت في 13 نيسان 1975، بين أحزاب مسيحية وفصائل فلسطينية ساندتها قوى إسلامية ويسارية لبنانية، وما لبثت أن تورطت فيها قوى إقليمية أبرزها سوريا وإسرائيل.
وتكرّست خطوط تماس طائفية غالباً، بين المناطق. ورغم فصول مرعبة من العنف والخطف والاغتيالات والقصف، كانت وتيرة الحياة تستأنف عادية كلما سكتت المدافع، ولم تتوقف العجلة الاقتصادية، بينما كانت الجهات المتصارعة تتلقى دعماً وفيراً بالمال والسلاح من الخارج.
انتهت الحرب بعد توقيع اتفاق الطائف عام 1989، وجولة عنف أخيرة انتهت في 1990، وخلفت الحرب وراءها أكثر من 17 ألف مفقود.
بعد ذلك تقاسمت القوى السياسية السلطة بعد الحرب، وفشلت في بناء دولة مؤسسات وقانون، وجاء الانهيار الاقتصادي الأخير ليشكّل أسوأ أزمات لبنان ونتج عن سنوات من الإهمال وسوء الإدارة والأزمات السياسية المتتالية، وبات معه أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، وفق الأمم المتحدة.
“لم نرَ الدولة”
وخلال الأسابيع الماضية، شهدت متاجر لبنان إشكالات بين زبائن كانوا يتهافتون على سلع مدعومة من الدولة، وبات العثور على أدوية أو حليب للأطفال أشبه برحلة بحث عن كنز مفقود، وهو ما لم يحصل خلال الحرب الأهلية إلا نادراً ولفترة محدودة.
كذلك باتت عائلات كثيرة في لبنان، تعتاش من مساعدات وإعانات تقدمها جهات مانحة أو حتى أحزاب.
في محلة الكرنتينا الملاصقة للمرفأ، يروي جان صليبا (63 عاماً)، مختار المنطقة سابقاً، في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية، قصص عائلات دُمرت منازلها أو تضررت، أو فقدت أفراداً جراء انفجار بيروت.
يقول الرجل بينما يرد على تحيات من المارة في الشارع، “لم نر الدولة” منذ الانفجار، “ولولا المساعدات المادية والغذائية من الجمعيات، لما كان الناس يقوون على الاستمرار”.
تحدث صليبا بمرارة عن “نكبة جماعية” ألمّت بسكان المنطقة، ويقول إن ما تعرضوا له في أحلك جولات الحرب “نقطة في بحر” مآسي الانفجار، مضيفاً: حينها “كان الفرد يتوجّه إلى عمله خلال النهار. وثمة فترات جنى فيها الناس المال. كانت هناك بحبوحة (وفرة) لم تعد موجودة اليوم”، في بلد لامست فيه نسبة البطالة عتبة 40%.
يتساءل الرجل “أين البحبوحة اليوم؟ ومن قادر على أن يجني المال؟ الأشغال توقّفت واقتصادياً انتهينا. نحن اليوم بلد يعيش على التسول”.
الأيام الجميلة انتهت
وإذا كان “جيل الحرب” صمد بمواجهة القذائف، فإن “الحالة الاقتصادية في ظل دولة لا تسأل” عن المواطن هي “ما تخيف” الناس جميعاً اليوم، وفق جان الذي يعتاش من محل لبيع اللوتو.
رغم كل هذا المشهد المأساوي والنقمة الشعبية على الطبقة السياسية، ما زالت القوى السياسية عاجزة عن إيجاد حلول لأزمة أسقطت حكومتين، وقد مضت أشهر على استقالة الثانية، وفاقمها تفشي فيروس كورونا ثم انفجار المرفأ.
وعلى بعد كيلومترات عدّة في غرب بيروت، يواظب فيكتور أبوخير (77 عاماً) منذ عام 1965 على فتح صالونه للحلاقة، رغم أنّه منذ أشهر “تمرّ أيام يحضر فيها زبون أو بالكاد اثنان”.
تعرّض أبوخير للخطف خلال الحرب الأهلية، وأُطلق الرصاص على محله، لكن ذلك في رأيه كان “أرحم” من تداعيات التدهور الاقتصادي. ويقول “نواجه اليوم الجوع”، ويضيف “لا أحد يحبّذ الحرب، لكن تلك الأيام كانت أفضل”.
يروي أبوالخير كيف كان يغلق محله فقط عندما يشتد القصف، مضيفاً باللهجة المحكية “كان في ليرات والناس مرتاحون”، ويسأل بغضب “هل حلال أن يأخذوا أموال الناس الذين وضعوا جنى عمرهم وتعويضهم (في المصارف) ليكون في إمكانهم أن يعيشوا بكرامة؟”.
في منطقة أخرى في بيروت، يقصد زبائن قليلون محل سمير حداد (83 عاماً) المتواضع لإصلاح آلات كهربائية، بعدما كان أربعة موظفين يعملون لديه خلال الحرب الأهلية في صالة عرض أنيقة.
تغلبه دموعه ويشهق بالبكاء عندما يتذكر “أيام العز” في بيروت، ويقول “الوضع اليوم قاس جداً.. أصلّي لربّي أن يحمي البلد الى أن يتحرك ضمير” المسؤولين، ويضيف “ولّت الأيام الحلوة، ولّت”.