اللعبة الدائرة في البلد أكبر من قدرة الرئيس الحريري وفريقه السياسي على إدارتها، لكنه بات أسير "لعبة أمم" مثيرة للقلق، دخل فيها ولا يقوى على الخروج منها من دون إذن، وللدلالة على ذلك، يمكن العودة الى أشهر مضت عندما قرر الحريري فجأة العودة الى تقديم نفسه مرشحاً طبيعياً للرئاسة الثالثة، بعدما سبق وأعلن أنه لن يعود الى السراي الكبير في عهد الرئيس عون، يومها ثمة من ورطّه عبر إيهامه بالقدرة على لعب دور المنقذ إثر وعود بفتح خزائن إقليمية ودولية لمساعدة الأقتصاد اللبناني شريطة البدء بإصلاحات لا مهرب منها لإعادة تسويق نفسه وحكومته أمام العالم، وظن يومها أن الشروط الدولية والإقليمية المتعلقة بحزب الله ودوره يمكن تجاوزها بضمانة فرنسية، ليتبين لاحقاً أن باريس لا تملك القدرة على تسويق مبادرتها من دون الرضى الأميركي ـ الخليجي، حيث تجتمع القدرات المالية والعسكرية المؤثرة لأن لبنان غير قادر على تجاوز أزمته المالية والاقتصادية من دون قرار من واشنطن بتسهيل وصول الدولارات عبر المؤسسات الدولية، ومن خلال الحلفاء في الخليج. لكن ما بيّنته الأحداث والتطورات أنه أعيد مرة جديدة إستخدام الحريري في صراع يتجاوز قدراته المحلية، وبات اليوم غير قادر على تجاوز العقد الساذجة التي طُلب منه اختلاقها لتجميد عملية التأليف، ولا يملك أيضا قرارالإعتذار من دون قرار خارجي يمنحه الضوء األخضر، بعدما ربطت الساحة اللبنانية بمصير ساحات أخرى يجري التفاوض عليها في المنطقة. يمكن الجزم أن الحريري لا يملك قراره في قبول المبادرات المحلية أو رفضها، وكذلك إتخاذ قرار الإعتذار، مع العلم أنه بات على قناعة بأن بقاءه خارج سدة المسؤولية في هذه المرحلة الصعبة هو الخيار الأفضل، خصوصاً أنه بات مقتنعاً بأن أبواب السعودية ستبقى مقفلة، ولا يملك أي وعود بتقديم المساعدات المطلوبة لإعادة تفعيل الاقتصاد وإنعاش الأوضاع المالية والمعيشية، ويعرف أيضا أن أي خطوة في اتجاه الشراكة المحلية مع الرئيس عون وحزب الله من دون مباركة خارجية، ستكون باهظة للغاية على مستقبله السياسي والشعبي، لأنه سيكون في مواجهة غير متكافئة مع من أغراه بلعب دور رئيس الحكومة، كما سيتلقف كرة النار وحده داخلياً، وسيحمله الجميع مسؤولية الفشل المحتم، وسيعود الشارع للإنفجار في وجهه، وسيكون أمام سيناريو مكرر عما حصل قبيل استقالته الأخيرة، ولهذا لن يقوم بأي دعسة ناقصة لا يملك أصلاً القرار فيها، وهو ينتظر الآن ما ستؤول إليه عملية التفاوض على طاولة الكبار، وسيكون قراره الإنعكاس الأولي للإنفراج أو الإنفجار في المنطقة. ولأن العلاقة مع باريس غير كافية لتأمين مظلة حمائية لمستقبله السياسي، لا يملك ترف إغضاب الأميركيين ويحتاج الى دعمهم الواضح والصريح للمضي في تشكيل حكومة يريد منها إنعاش حضوره الهزيل داخليا، مع إعتقاد معظم اللبنانيين أنه غير جدير بلعب دور المنقذ بعد سنوات من الإخفاق على كافة المستويات. ولهذا لا حكومة من دون إنقشاع الضباب في واشنطن. وحدهم الأميركيين يملكون مفتاح الحل والربط في "بيت الوسط"، وعندما يقررون التعامل بإيجابية مع الساحة اللبنانية، ويخرجونها من دائرة التجاذبات مع طهران، تتذلل كافة العقبات الحكومية الواهية، وسيخرج الحريري الى اللبنانيين بخطاب مؤثر جديد عن التضحية وتجرّع السّم، ويعلن قبول توسيع التشكيلة الحكومية التي ستقابلها بعبدا بقبول المشاركة بالثلث المعطل مع الحلفاء، وعندها لن يسأل أحد عن هذا الوقت الثمين والضائع ومن يقف وراءه، وسيقال لنا حينها "الحكومة المتأخرة خير من أن لا تأتي أبدا".
ولهذا
عندما يخرج الحريري للإعلان عن تضحية جديدة، وتجرّع السّم في سبيل تأليف الحكومة،
ويتوجّه الى القصر يكون الخارج قد سلّم بعدم القدرة على الذهاب بعيدا في الرئاسي
للتفاهم على صيغة التسوية المفترضة مع الرئيس عون، دفع لبنان نحو الفوضى الشاملة
التي باتت على الأبواب"، حينها قد تمنح البلاد بعض الاوكسيجين يبقيها على قيد
الحياة ريثما تنضج التسويات الكبرى. الرئيس
المكلف الذي قضى جلّ وقته بالتنقل بين عواصم خليجية واقليمية وأوروبية يدرك سلفاً
أن زياراته لا تقدم ولا تؤخر في المواجهة مع رئيس الجمهورية، لأن تلك الدول لا
تملك الأدوات الجدية للتأثيرعليه لدفعه لتقديم تنازلات جوهرية تمسّ بعهده،
وبمستقبل تيّاره السياسي.
فبعد العقوبات الأميركية على رئيس التيار الوطني الحر جبران
باسيل لم يعد فريق الرئيس يخشى من "البلل"، وقد سحب إستعجال
الإدارة الأميركية الراحلة من مناوئي العهد ورقة إبتزاز قيّمة نجحت في أكثر من
محطة في الماضي، لكن بما أنه حكم على المستقبل السياسي لباسيل بالإعدام، فإن الاستراتيجية
الجديدة عنوانها "من بعدي الطوفان"، لهذا يبدو حراك الحريري في غير
مكانه وتضييع للوقت والجهد. في المقابل، لن يكتب النجاح لمحاولة الرئيس عون تطويق
الحريري من خلال شرح وجهة نظره للسعودية، وفرنسا. ومع عودة
الملف الحكومي الى نقطة الصفر، وأمام المعضلة الدستورية التي لا تسمح لأي من
الرئاستين فرض تشكيلة أحادية، أو إجبار الآخر على التراجع، ستبقى المراوحة سيدة
الموقف بانتظار تفاهمات خارجية، أو إنفجار داخلي يقلب الطاولة على الجميع.