اللقاء الأخير بين الرئيس ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري كان عاصفاً، إنتهى قبل أن يبدأ وخرج بعدهالحريري ليتلو بياناً تصعيدياً ومحضراً سلفاً... يُعّد الرئيس عون هذا التصرف بأنه مؤشر واضح الى أنه كانت للحريري نيات مضمرة ومبيّتة حياله... يفيض عون في التعبير عما يجول في نفسه وأفكاره تجاه الحريري. لديه أكثر من لوموعتب ويساوره شعور "إستياء وغضب"، والى درجة يصبح السؤال مشروعاً ومبرراً عما إذا كان من إمكانية بعد لرؤية الحريري رئيساً للحكومة في عهد عون؟! وإذا حصل هذا الإلتقاء مجددا تحت عنوان "حكومة تسوية"، فهل ستكون هذه الحكومة قادرة على النجاح في مهمتها وعلى الإستمرار حتى نهاية العهد؟!
يخرج الرئيس عون (في حديث خاص الى "الجمهورية") أزمته مع الحريري الى العلن، ويُخرج ما لديه من مآخذ وانتقادات. يكشف "المستور". يتوغل في التفاصيل. يفنّد أسباب التأخير في تشكيل الحكومة، ملقيا المسؤولية علىالحريري، وواصفاً سلوكه السياسي بـ"المريب وغير المفهوم".
وفي هذا "الهجوم الإعلامي"، الذي يبدو مكملاً للهجوم الدبلوماسي عبر لقاءات مكثفة مع السفراء لشرح موقفه، يعدد رئيس الجمهورية مآخذه الكثيرة على الرئيس المكلّف، ومن أبرزها:
1-جولات الحريري الخارجية "السياحية" والمريبة...
"الحريري وضع التكليف في جيبه وراح يتنقل من دولة الى أخرى ببرودة أعصاب ومن دون تقدير لأهمية الوقت المهدور، ولحراجة الظرف الدقيق الذي لا يسمح بترف السياحة الخارجية، علماً أن زياراته لم تفض الى أي نتيجة إيجابية لمصلحة لبنان، لا بل لعل بعضها مريب".
2-تجاهل الحريري التام لأكبر رئيس كتلة نيابية (النائب جبران باسيل) ورفض الجلوس معه. "ما هذه الخفة في التصرف، "والأنكى من ذلك أنه يمتنع عن التحاور مع باسيل، ثم يطلب منه أن يمنح الثقة لحكومته. فكيف يكون باسيل غير جدير بنيل ثقتك وتشترط بالمقابل أن يعطي ثقته"...
يعتبر عون أن الحريري أوجد عداوة غير مبررة مع باسيل، وهو متفاجئ بهذا العداء ولا يجد تفسيرا له...
3-إصرار الحريري على تسمية الوزراء المسيحيين، متجاهلاً أن رئيس الجمهورية هذه المرة مؤتمن إستثنائياً على اختيار هذه الأسماء، لأن القوى المسيحية الأساسية غير مشاركة في مفاوضات التأليف. ففي السابق كان الرؤساء المكلفون هم الذين يتفاوضون مع ممثلي المسيحيين ويتفقون معهم على الأسماء "هذه المرة تغيّرت المعادلة، لأن حزبا القوات اللبنانية والكتائب قررا عدم المشاركة لكن الحريري يرفض الحوار مع التيار الوطني الحر.
4-عدم إحترام الحريري الأصول في توزيع الحقائب (السيادية والخدماتية والعادية) على الطوائف بطريقة دقيقة ورفض جدولاً منهجياً "هذا المبدأ إقترحته عليه في إطار التعاون وليس بغرض مصادرة تحفظ التوازنات. فلم يراعصلاحياته".
5-إصرار الحريري على حكومة الـ18 وزيرا وعدم وجود تفسير لدى عون لتمسك الحريري بهذا "الرقم السحري"، ما يدعوه الى الإستغراب والإرتياب، وعدم وجود أسباب وجيهة مقنعة لدى الحريري تبرر عدم توسيع الحكومة...
ويكشف عون أنه عرض على الحريري حكومة من 20 أو 22 أو 24 وزيرا لحماية وضمان معياري "التوازن والإختصاص"، ومن دون إستحواذ أي طرف على "الثلث المعطل". ولكن العرض رفضه الحريري وقال إنه متمسك بصيغة الـ18.
6 -الإتهام الذي وجهه الحريري لرئيس الجمهورية بأنه يريد "الثلث المعطّل " ويحاول الحصول عليه.
وهنا يسأل عون: "هل يعقل أن يعطل رئيس الجمهورية نفسه وعهده. "ولو كان كل الوزراء في الحكومة من حصتي ما كنت لألجأ الى التعطيل. أنا من موقعي كرئيس للجمهورية أستطيع أن أتدخل، وبالتالي لا حاجة لي الى الثلث المعطل"...
7-تصرفات الحريري وسلوكه في التأليف الذي لا يبعث على الثقة. يورد عون في هذا المجال واقعتين: الأولى عندما
زاره الحريري مرة وطلب منه أن يلقي نظرة على المسودة التي كان وضعها، وتضم 70 إسماً من جميع الطوائف فأعطاه إياها بكل نية حسنة، ولم يكن يعلم أنه سيختار منها بالنيابة عنه، وهو الذي يقرر أي أسماء سيعتمدها من اللائحة التي وضعها للإستئناس أو من خارجها... والواقعة الثانية جرت في لقائهما الأخير عندما كان الحريري منفعلاًومعتبراً ان الإقتراح الذي أرسله إليه عون ينطوي على ثلث معطل، وهذا مرفوض من قبله. فشرح له عون أن استنتاجه ليس صحيحا، وتوجه إليه بالقول "مزق الورقة وانسى امرها"،إلا أنه خرج ليتلو بيانا تصعيديا ويستنتج عون أن الحريري أصبح "غريب الأطوار"، و"كأنني لا أعرفه على الرغم من أنني كنت قد احتضنته وتعاملت معه كوالده. وعندما سألته ماذا جرى لك أجابني: لقد تغيّرت"...
أما ما يمكن إستنتاجه من كل ذلك، هو أن أزمة الثقة مستحكمة والهوة واسعة بين الطرفين، فلا عون يريد الحريري رئيساً للحكومة، ولا الحريري يريد باسيل شريكاً في الحكومة. فالصراع السياسي بين عون والحريري يمكن إختصاره في عقدة أساسية هي الدور المستقبلي لجبران باسيل. ذلك أن الحريري يعتقد أن باسيل إنتهى في السياسة بغض النظر عن حجمه النيابي أو الحجم الشعبي لتياره، وبالتالي لن يقبل الحريري تثبيت باسيل في المعادلة المقبلة، ولا تجديد العقد السياسي معه وإعادة إحياء التسوية الرئاسية السابقة أو إنتاج تسوية جديدة... وهذا ما لاحظه الفرنسيون واكتشفوا باكرا أن الأزمة الحقيقية تكمن في غياب الثقة بين عون والحريري. فمن اللحظة الأولى، ومع تأكيدهما على الإلتزام بالمبادرة الفرنسية، إتهم عون الحريري بمحاولة الإلتفاف على مضمونها من خلال محاولته إقصاء رئاسة الجمهورية عن المشاركة الجدية في التأليف، وإقصاء فريق مسيحي وازن عن المشاركة في عملية الإنقاذ لإظهاره مسؤولاً عن الأزمة في البلاد. وفي المقابل، كان الحريري يبدي إستعداده لمناقشة تشكيلته الحكومية، لكن من دون العودة الى حكومات التسويات التي كبّلته سابقاً وستمنعه لاحقاً من الإنجاز...
ومع وجود أزمة ثقة عميقة، فإن مسألة "اليوم التالي"(في حال تشكلت الحكومة) كانت تقلق باريس كثيرا، لأن مجلس الوزراء سيتحول الى ساحة لتصفية الحسابات السياسية، وسيمنع حصول أي عملية إصلاحية جدية في ظل الكيدية السائدة بين الطرفين. وفي الواقع، بات الفرنسيون على قناعة بعدم وجود "نوايا صافية" لدى الطرفين، وما سمعوه من كل واحد تجاه الآخر أشار بوضوح الى صعوبة التعاون البنّاء بينهما. فالرئيس عون لم يُعطل خلال جولات التفاوض عن عودة الحريري الى رئاسة الحكومة، و أي إشارة تفيد أنه راض و عدد على مسامع الفرنسيين الفرص التيأهدرها بسبب عدم جديته وسوء إدارته و"مراهقته" السياسية، وتمسكه بسياسات اقتصادية ومالية أفقرت البلد. كما لم يبد عون اي اقتناع بقدرة الحريري على اخراج البلاد من المأزق لأنه الوحيد مع حلفائه في المنظومة السياسيةيريد إضعاف العهد ومنعه من تحقيق أي إنجاز فيما تبقّى من الولاية الرئاسية، ولهذا يصف عون هذه العلاقة بأنها "زواجبالإكراه".
وفي المقابل، لم يبِد الحريري إرتياحه إزاء العودة الى الشراكة مع عون، وكان يشكو دائما للفرنسيين من "هيمنة" باسيل على القرار في قصر بعبدا، ويُعرب عن إعتقاده بأن رئيس الجمهورية ليس راغبا في تسهيل مهمته لاحقا، لأنالمكتوب يُقرأ من عنوان التأليف، وبالتالي لا يظن أنه قادر على الإنجاز إذا ما ظل عون يمارس سياسة "التوريث".
وذهب الحريري الى حد المطالبة بضرورة إستمرار المتابعة الفرنسية بعد التأليف إذا ما قّدر للحكومة أن تبصر النور،
لأنه غير واثق أبدا بوعود التعاون التي سبق وجربها إبان التسوية الرئاسية التي انتهت بانقلاب الفريق الآخر عليها.