منذ عشرين عاماً وعد البابا القديس يوحنا بولس الثاني شعب العراق الموجوع بزيارة البلد الغارق في آلامه وانقساماته وخيباته، لكن الظروف حينها لم تسمح بإتمام تلك الزيارة التي كان يمكن أن تغير مسار بلد سار بخطى حثيثة نحو بحور الدم والحقد والقتل والتهجير.
اليوم وبعد عشرين عاماً يفي البابا فرنسيس بالوعد ويزور العراق ليكون رسول أخوة وسلام ويبلسم جراح العراقيين. زيارة تحمل الكثير من الآمال والأبعاد لا لأهل العراق فحسب بل للعراقيين في لبنان والعالم ولكل من يرى في بلاد ما بين النهرين جذوراً له.
أشوريون وكلدان وجدوا في لبنان ملجأ لهم، إتحدوا مع أهله وصاروا من نسيج شعبه لكنهم لم ينسوا يوماً جذورهم الإثنية والدينية والثقافية: هم عراقيون ينتمون الى حضارة بلاد ما بين النهرين، هم الكنيسة الأولى التي آمنت بيسوع المسيح وحملت رسالته الى العالم، لا بل هم اول الشعوب التي آمنت بالله وتخلت عن أصنامها. بينهم وبين العراق حبل سرّة لم ينقطع يوماً، فهم ابناؤه وهجرتهم القسرية الى لبنان التي تعود الى بدايات القرن الماضي، أعاد إحياء آلامها التهجير الأخير لمسيحيي العراق فحضنوا لاجئيه وفتحوا لهم كنائسهم ومناطقهم وبيوتهم، وعادت اللحمة القديمة لتربط بينهم وبين أبناء أرضهم الأم. اليوم ومع زيارة قداسة البابا فرنسيس التاريخية الى العراق يشعر كل كلداني وأشوري وكل لاجئ عراقي في لبنان أنه عاد الى العراق ليعيش مع أهلها فرحة لقاء البابا.
كنيسة الشهداء
سيادة المطران ميشال قصارجي مطران كنيسة بيروت الكلدانية كان يتمنى ان يواكب زيارة قداسة البابا الى العراق لكن ظروفاً أقوى منه حالت دون ذلك، لكنه يشعر أنها زيارة استثنائية لبلد استثنائي مرّ بظروف قاسية جداً كانت لها ارتدادات واضحة على لبنان، لا سيما بعد تهجير المسيحيين من سهل نينوى ولجوء الكثيرين منهم الى لبنان. “كلنا إخوة” هو عنوان زيارة الأب الأقدس للعراق، يقول المطران قصارجي وهو تعبير عن الرجاء والتضامن ورسالة الى أبناء الكنيسة في العراق تقول: أنا معكم وأشعر بآلامكم. لم يرد البابا فرنسيس ان يخذل الشعب العراقي وأصرّ على المجيء رغم الوضع الصحي والتحديات الأمنية، في زيارة تحمل ثمار السلام وتؤكد ان هذا البلد المدمّر لا يزال قائماً وموجوداً. قداسة البابا سوف يزور منطقة “أور” التي منها انطلق النبي ابراهيم وسوف يلتقي المرجعية الشيعية آية الله علي السيستاني في النجف، ليقول للعالم أجمع إن العراق أرض الأديان الثلاثة وإن المسيحيين ليسوا طارئين عليه ولا أقلية فيه، بل هم أصل البلد وكنيستهم تدعى كنيسة الشهداء. أملنا، يؤكد المطران قصارجي، ان تساهم هذه الزيارة في بناء الحجر والإنسان في العراق وان تحدث تغييراً ما في هذا البلد المتألم.
هل ثمة أمل بأن تؤدي الزيارة الى عودة المهجرين المسيحيين الى العراق؟ يقول: كل عراقي كلداني متعلق ببلده ويحلم بالعودة إليه، ونحن من جهتنا رغم احتضاننا الكبير لحوالى 2500 عائلة كلدانية مهجرة نشجعهم على العودة، لكن قسوة ما عانوه تكبح جماح رغبتهم بالعودة، لقد ملّوا المآسي والخوف والوجع ولا يمكن ان يعودوا إلا إذا حدث تغيير كبير في أوضاع العراق نأمل أن يحصل يوماً ما.
لم تستطع الكنيسة الكلدانية في بيروت، وهي كنيسة مشرقية تتبع التقويم الغربي، ان تواكب الزيارة كما يجب نظراً لأوضاع الحجر التي كانت قائمة، ولم تستطع إرسال وفود للمشاركة رغم كون بعض العراقيين قد ذهبوا باسمهم الشخصي، لكنها ستقيم سهرة صلاة جماعية عبر تطبيق زووم ليل السبت وستفتح الكنيسة أبوابها لاستقبال المصلين يوم الأحد من أجل هذا الحدث. عن بعد ستواكب لكن تبقى قلوب الكلدان مع الزيارة يرافقون خطواتها وينتظرون نتائجها.
قومية عراقية أبعد من الطوائف
من جهتها كنيسة المشرق الأشورية، التي تتبع التقويم الشرقي، تجد في زيارة قداسة البابا الى العراق تأكيداً للعالم أجمع على أهمية هذا البلد الذي منه عرف الإنسان وجود الله وآمن به، في حين كانت كل الشعوب من حوله تعبد الأصنام. الخورأسقف يترون كوليانا وكيل رئيس الطائفة الأشورية في لبنان يؤكد ان الكنيسة الأشورية لا تزال على إيمانها القديم، وهي حملت صليب المسيح وبشرت بالمسيحية في أنحاء العالم القديم، فكان منها بطاركة من المغول والفرس ولكن اليوم للأسف لم يبقَ إلا القليل من المسيحيين في العراق يتراوح عددهم بحسب قوله ما بين 500 الى 700 ألف. زيارة البابا ستمنحهم القوة ليبقوا في أرضهم ويتشبثوا بإيمانهم هم الشعب الذي منه خرج ابراهيم النبي.
نسأل الخورأسقف المتواجد في ألمانيا حالياً ماذا تعني الزيارة لأبناء رعيته في لبنان وهل هم مهتمون بها؟ فيؤكد ان اهتمام الرعية يتخطى الاهتمام الديني ويدخل في إطار الإثنية والقومية. فالأشوريون الذين جاؤوا الى لبنان في العام 1918 واعترف بهم كطائفة في ستينات القرن الماضي، لا يزالون يشعرون بانتماء قوي الى قوميتهم العراقية. ويضيف، لكل قومية مقومات وارض وحين يأتي قداسة البابا الى العراق في هذه الأوضاع الصعبة، فإنه يعطينا زخماً، نحن الأشوريين المنتشرين في أصقاع العالم، لنعود الى أرضنا ونثبت وجودنا في العراق. وفي لبنان تعطينا هذه الزيارة رسالة بأننا كمشرقيين يجب ان نضع أيدينا بأيدي بعضنا لنحمي المشرق ومسيحييه. نحن من فسيفساء هذه المنطقة ولا أحد سيحمينا إلا تعاوننا أما ارتباط كل واحد بطرف غريب فيمكن ان يقضي علينا.
الأرض لنا
كيف يرى أبناء الكنيستين “الأشورية والكلدانية” زيارة البابا وأبعادها وكيف يعيشونها؟
الصحافية سميرة أوشانا صاحبة ورئيسة تحرير موقع Magvisions تقول: كأشورية لا أعرف بصراحة ماذا أفكر حيال الزيارة، فكري مشتت، وعندي انفصام فكري وعاطفي. العراق اليوم المجبول بالعنف والدماء على مرأى من العالم اجمع، هو بالنسبة اليّ بلاد ما بين النهرين مهد الحضارات والثقافة والفكر والعلم والتطور، لكن قادة الظلام بالاتفاق مع المتآمرين الدوليين حولوه الى برك دماء سفكت دم شعبه الاول أي المسيحيين الاشوريين، بخطة جهنمية لتهجيرهم وتشتيتهم في انحاء العالم.
الأشوريون هذا الشعب العريق عبر التاريخ، الذي كان اول من اعتنق الديانة المسيحية في الشرق دفع اثماناً باهظة ثمن ايمانه. وهو اليوم يسير طريق الجلجلة لوحده حاملاً صليبه وجراحه ليصلب مرة جديدة بعد مجازر “سيميلي” القديمة.
زيارة البابا الى “بلاد ما بين النهرين”… ربما اكذب على نفسي او اعطيها حبة مهدئ، عندما أقول اتأمل بها خيراً. أي خير؟ وعدد المسيحيين في العراق، الذي كان جنة وتحول جحيماً بفعل سفاكي الدماء، الى تقلص وقد يئسوا من النضال للبقاء والتشبث بأرضهم.
ولكن، نحن شعب مؤمن، تقول سميرة، لا نزال نؤمن بالعجائب، ونأمل ان يعمل البابا للحفاظ على الشعب الاشوري في العراق وعلى أرضه ولغته وعاداته وتقاليده، وأن يعلن ان من يدعي حماية الاشوريين هم قاتلوهم وأن كل ما يودّ الاشوريون قوله للعالم، هو انهم لا يريدون احتلال اراض ليست لهم، بل عودة أرضهم من مغتصبيها. فهل يعمل البابا لتشجيعهم على الثبات في ارضهم؟ ويناشد حكام الارض للهرولة لمساعدتهم في قضيتهم؟ أم يكون مجرد شاهد على ما تبقى من المسيحيين في العراق، وتكون زيارته مجرد سياحة على أرض الدماء؟
نيالكم
هذه الحدة في التعبير عما يعيشه مسيحيو العراق يقابلها فرح بزيارة البابا وأمل بنتائجها من قبل العراقيين في لبنان. طيف سعيد منسي، شابة عراقية تعيش في لبنان منذ حوالى سنة، تتابع على الشاشة بتأثر واضح لحظة وصول البابا الى ارض العراق وتعبرعن فرحة وغصة في آن. تقول: أشعر بسعادة كبيرة لزيارة البابا الى بلدي ترافقها غصة لبعدي عن وطني وعدم تمكني من مشاركة أهلي هذه الأجواء، ومساعدتهم في نشاطاتهم وتحضيراتهم وفرحتهم. لقد أعدّوا حفل استقبال وترانيم ومسرحيات وزينوا الشوارع وتجمعوا.. صحيح أننا مهجرون بعيدون عن أرضنا وأهلنا لكننا فرحون جداً بالزيارة. نتابع تفاصيلها لحظة بلحظة عبر التواصل مع أصدقائنا هناك. لقد استطعت إيصال صوتي، تقول طيف، عبر رفاقي وشاركتهم بتعليقاتي كل التحضيرات في بغداد. لهم اقول كلمة واحدة “نيالكم” انتم شهود على حدث كبير أتمنّى أن يحمل البركة والسلام ويعود العراق إلى ما كان عليه.
طيف كسواها من اللاجئين العراقيين منعتها ظروف الحجر والجائحة من القيام بأي نشاط لمواكبة الزيارة وبحرقة تقول: نحن هنا جالسون بحسرتنا ليتنا كنا قادرين على الذهاب لكن كعراقيين لا نستطيع مغادرة لبنان اليوم ولم تمر علينا بعد سنة فيه. لم يذهب أي ممن نعرفه لكن قلبنا مليء بالأمل والتفاؤل وسوف نشارك الزيارة دقيقة بدقيقة، من خلال القنوات العراقية ونقل الأصدقاء المباشر لها.
لينا عقراوي السيدة العراقية التي تعيش في لبنان منذ سبع سنوات ترى في ما يحدث امراً يفوق الطبيعة وكأن العراق تغير بين ليلة وضحاها. ففي عراق الموت والخراب والدمار تبدلت الأوضاع بلحظة: نُظّفت الشوارع، عمتها الزينة لا بل ساد فيها الأمن وغمرتها حيوية افتقدتها طويلاً. وتتساءل لينا لماذا لم تقم الدولة بهذه التحسينات من أجل الشعب العراقي؟ لمَ انتظرت مجيء البابا. ليته يبقى في العراق، تقولها بأسى، حتى يتحسن وضع هذا البلد المتعب.
كيف انقلب العراق بليلة
تُفرّق لينا بين ما يقوم به الشباب من قلبهم وما تقوم به الحكومة لحفظ ماء الوجه وإظهار حسن نيتها أمام الإعلام. نسألها إن كانت خائفة فتجيب ان الخوف دائماً موجود مع كل تجمع للمسيحيين، لكنها تصرّ على أن الدولة تود تبييض صفحتها لذا ستقوم بالمستحيل لإنجاح الزيارة وفي المقابل تقول إن أصدقاءها، وهم في غالبيتهم من الشيعة، قد رفعوا صوراً للبابا فرنسيس برفقة مقتدى الصدر حملت شعارات وآيات قرآنية، ووزعوا منشورات تدعو الى الوحدة والتضامن وهذا أمر غريب جداً لم يشهده العراق سابقاً.
لينا كغيرها من اللاجئين لا يمكنهم مغادرة لبنان والعودة الى العراق ولو لزيارة، حتى لا يقفل ملفهم لكن حتى لو كانت العودة مسموحة فلا أحد يفكر فيها. فالعقليات، تقول الشابة التي أمضت حياتها في بغداد، تغيرت ومهما تطورت الأوضاع يصعب ان تعود الى ما كانت عليه سابقاً. لكن رغم كل شيء تأمل لينا، التي كتبت للبابا قصيدة، أن تحمل زيارته الخير الى كل العراقيين وليس الى المسيحيين وحدهم وان تزول التفرقة وتتوقف التفجيرات ولو كانت تلك امنيات تعرف انها لن تتحقق.