عن حالة اللا-موسيقى
2021-03-28 16:04:32
شجن... تلك الكلمة السحرية الشعواء الملتبسة، التي لا هي ابتسامة الميلانكوليا، ولا الحزن الفردي الصافي، ولا التأثر الصّادم النقي، ولا شبه الأمل بفرح مؤجل قد يرشح منها كمستحيل ملحميّ نصدّقه لمجرد أن القصة حلوة. شجن، تلك الكلمة اللي باتت تخيفني الإصابة بها، إذ ما عاد "السيستم" الذي يكوّنني ليحتملها. لذلك، تكاد الموسيقى تختفي من حياتي منذ أكثر من عامين، أي الأغاني التي أقوم بنفسي إلى الكومبيوتر أو الموبايل لاختيارها وتشغيلها. هذه اندثرت، والآن أكتفي بالتسليم بما يمرّ في فضاء البيت عرضاً، كضوضاء حميدة تكسر الرتابة إذ تمرّ بي، بل من خلفي ومن أمامي ولا تمسّني في علبتي الزجاجية اللامرئية. أنا التي كانت الموسيقى والأغنيات خبز يومياتي، ومنذ الهجرة، ذَوَت. فكل مقطوعة، كل مقطع من أغنية كانت في لائحة معزوفات السيارة أو المكتب أو المطبخ، صارت ألماً خالصاً. فَقَد الشجن نصفه الجميل، وبدلاً من متعة الاستسلام لذوبان حامض حلو، صار جَلداً عقيماً للذات... مثل بيروت.الحنين كلمة سخيفة. وكذلك الوطن، وأحياناً الانتماء. تقبيل الأرض فكرة لا فضل فيها على تقبيل النعال. المسألة مسألة المعنى المتسرّب، العمر المستعصي على النفي. من خارج لبنان، أعيش لبنان. تفاصيل تفاصيله في شاشاتي كلها. ليرته، دولاراته، لقاحاته، أوكسيجينه، انفجاراته النووية، والسياسة الغثيانية. لكن هذا الانخراط الموصول من بُعد، ليس السبب الأهم في تلك الحالة المهيمنة التي لا يسعفني إلا مسمّى "اللا-موسيقى" عنواناً لها، بكل ما في التعبير من صِغر وكِبَر، من الدقّة والترامي على أطراف العيش. بل هي بداهة أن المكان الذي لطالما فكّرت أني عائدة إليه لا محالة، آخذ في الزوال. مثلّث برمودا جديد. وكان ذات يوم بيتاً شيّدته على مقاسي، بيديّ، ودفعتُ أثماناً واستثمرتُ شباباً وحصدتُ حياة كنتُ أريدها، أحببتها غير غافلة عن مثالبها. في المعدودات الـ(لا)ملموسات، تعويض عشرين عاماً من العمل، سرقها المصرف بالشراكة مع الدولة. وفي المعنويات المكنونات، أهل وناس، جريدة وشغف، واستمرارية في إبني، الذي، حين يكبُر وأشيخ، كنا سنشتُمُ سوياً هذا البلد الذي اخترته لأيام عجزي، ومنعني من إعطاء هذا الشاب الوسيم جنسيتي. ومن شرفة مطلة على مقتطف رأس بيروتي، سنمدّ للمدينة الملعونة لسانَينا، لأن الشاب الوسيم قدَّرت قيمته دولة أخرى، أرقى وأكثر احتراماً، وسنشرب معاً في صحّة حماقتي العائدة إلى فوضاها رغم كل شيء.المشهد الآن هوليوودي. أركض بعيداً، والبيت القديم خلفي يتفجر، يتهاوى بسرعة تكاد تساوي سرعتي في سباق النجاة. شعور بالذنب، بالارتياح، بالعطش، بالربح والخسارة. الموسيقى التصويرية: "آثار على الرمال" لزياد الرحباني الذي أزدري وأحبّ. تجرأت اليوم على سماعها، والشجن يُفلسني، لا كلام كافياً عن نزيف الخلاص.أسجّل لمؤنِسِي الرحيل. رسالة صوتية لجهاد، فيردّ مشخّصاً أن "هذه مشاعر الغربة يا رفيقة"، ويبشرني بأنها لا تزول أبداً. على عكس بيروت الخراب... فكيف نعود إلى ما يفنى، إلى هباء؟ لا حجَّ معاكساً ممكناً، ولا حتى في الأحلام، ولا حتى في الأكاذيب التي نختلقها لأنفسنا مثل الدواء الوهمي المستخدم في البحوث الطبية. أسجّل لبيسان، ولا ردّ حتى الآن، وأجدني أتذكّر طرفتنا عن "صداقة تتقدم ببطء"، آملةً ألا أكون قد شددت صمودها إلى رمالي المتحركة. وأضحك وأبكي في قلبي، كما فعلت في علانيتي أمام كليب نانسي عجرم.. نانسي عجرم يا هبلة؟! أقول لنفسي، وأقولها ليوسف في بيروت إذ أهاتفه "لأوبخه" على مقالته عن بكائه الغريب مستمعاً إلى فيروز التي لم يُدمنها يوماً: ما كان ينقصني إلا أنت يا يوسف! ويعتذر، ونضحك "من البلوة" على رأي أحمد فؤاد نجم.أُسكِت الآن الموسيقى. نعم، هذا أفضل بكثير. هدير نشّافة الغسيل، قرقعة الإبريق الكهربائي في المطبخ. أغاني العَيش. فليخرَس الشجن.
رشا الأطرش