زيارة السفير السعودي وليد البخاري الى قصر بعبدا لا تعلن فقط إستئناف العلاقة مع الرئيس ميشال عون بعد طول إنقطاع منذ صيف 2019 ،وإنما تعلن عودة الإهتمام السعودي بالملف اللبناني، وفي توقيت داخلي حساس مرتبط بأزمة الحكومة والخلاف الحاد بين الرئيس عون والرئيس المكلف سعد الحريري.
أكثر ما يلفت الإنتباه في هذه الزيارة وما يميزها هو "التوقيت"، وإن جاءت تلبية لدعوة من رئيس الجمهورية
حملها مستشاره الوزير السابق سليم جريصاتي في خلال زيارته الى السفارة السعودية، فإن حصولها بعد 24 ساعة من إنفجار الخلاف بين عون والحريري يشكل في حد ذاته مغزى ويبعث برسالة سياسية تتراوح بين حدين: الأول هو أن السعودية لا تأبه لأمر الحريري وما إذا كانت الزيارة تشكل إحراجاً له، والثاني هو أن الزيارة لا ترتبط بالملف الحكومي وإنما بتطور العلاقة مع الرئيس عون، والتي تشهد منذ فترة تقدماً ملحوظاً. فهذه الزيارة لم تأت من فراغ وإنما سبقتها تطورات و"مقدمات" كان أبرزها زيارة جريصاتي الى السفارة السعودية، والإتصالات الجارية عبر قناة خلفية في
باريس عبر السفيرين السعودي واللبناني، وبيانات الإستنكار والتضامن الصادرة عن وزارة الخارجية اللبنانية كل مرة
تتعرض فيها السعودية للقصف الحوثي بالصواريخ والطائرات المسيرة...
ليس توقيت الزيارة لوحده ما شكل عنصر المفاجأة والإهتمام. في الشكل، المعد مسبقا والمكتوب بعناية
برز البيان الذي أذاعه البخاري من منبر القصر الجمهوري، وفي خطوة "دبلوماسية نادر حدوثها". وفي المضمون، برز التأكيد
على ثلاثة نقاط رسمت الإطار العام للموقف السعودي في لبنان وهي: أولا، الإسراع في تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ إصلاحات جذرية تعيد ثقة المجتمع الدولي بلبنان. وثانيا، تطبيق القرارات الدولية 1701 ،1680 ،1559 .وثالثا، التشديد على أن إتفاق الطائف هو المؤتمن على الوحدة الوطنية وعلى السلم الأهلي في لبنان.
أما مضمون اللقاء، فإنه امتد من اليمن حيث المبادرة السعودية للسلام التي ر حب بها الرئيس عون متمنيا للمملكة
النجاح فيها... الى لبنان حيث حرص عون على وضع البخاري في صورة وتفاصيل أزمة تشكيل الحكومة والأسباب التي
أوصلت الى هذا الوضع من التعطيل والدوران في حلقة مفرغة. ورفع عون "شكوى سياسية" ضد الحريري محملاً إياه مسؤولية الأزمة ملمحاً الى عدم وفائه. وتؤكد المعلومات أن عون تحدث أمام البخاري عن "الحريري غير الوفي" (بعدما كان تحدث أمام دياب عن "الحريري الكاذب") ، ولكن المعلومات غير واضحة في شأن ردة فعل البخاري وكيف تفاعل مع توصيف عون للحريري وشكواه عليه.
هناك مصادر تفيد أن عون قال للبخاري إنه كان يعامل الحريري كإبن له، لكن تبين أنه من دون وفاء. ورد البخاري قائلاً لعون: "عم تخبرنا نحن عن وفائه؟! نحن أكثر من يعرف ذلك"... وتفيد مصادر أخرى أن السفير السعودي توجه
الى رئيس الجمهورية بالقول: "أنت رجل حكيم ووفي"(في إشارة غير مباشرة الى الأزمة التي مر بها الحريري في السعودية نهاية العام 2017 ،ليؤكد على مدى وفاء عون الذي وقف الى جانب الحريري يومها) ، غامزا عبر كالمه هذا من قناة الحريري.
ما هو مؤكد أن الحريري كان أحد عناوين اللقاء. وما هو غير مؤكد أن الرئيس عون يطرح على السعوديين مسألة
الإتيان بغير الحريري الى رئاسة الحكومة مع الإستعداد للتعاون معه، وأن زيارة البخاري الى قصر بعبدا هي واحدة من نتائج إتصالات أجراها فريق رئيس الجمهورية وتمحورت بين بيروت وباريس وعاصمة خليجية للدفع في اتجاه تعويم
المبادرة الفرنسية ومشروع حكومة الإختصاصيين برئاسة غير الحريري... فماذا لو حصل ضغط فرنسي ـ سعودي إضطُر معه الحريري الى الإعتذار مقابل ضمانات بوصول شخصية تضمن مصالح تلك الجهات؟!
في الواقع، مثل هذا المنحى للملف الحكومي لا يبدو ممكناً وميسراً في الوقت الحاضر، ومسألة إعتذار أو إزاحة الحريري خاضعة لحسابات وتوازنات داخلية وخارجية ما زالت تلعب في مصلحة بقائه "رئيساً مكلفا". الطائفة السنية مستنفرة حول الحريري ومعه أكثر من أي وقت مضى. والثنائي الشيعي، رغم ما سُجل داخله من تباينات حول الحكومة الجديدة والمبادرة الفرنسية، إلا أنه ما زال متفقا على سعد الحريري لرئاسة الحكومة. وإذا كان الباب السعودي ما زال موصدا في وجه الحريري، فلا يُحدد له موعد في السعودية للقاء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ولا يزوره حتى الآن السفير البخاري بعد مرور أسابيع على عودته الى لبنان... فإن الباب الفرنسي ما زال مشرعاً أمام الحريري،
والدعم الروسي له واضح، مع أن الملف اللبناني لا يشكل أولوية لدى موسكو وتعاطيها معه يجري من خلفية أنه جزء من الملف السوري وامتداد له.
ومع أن أموراً تحدث في المنطقة وتعكس تغييراً في سياسات السعودية وتموضعها، بدءا من اليمن، حيث طرحت السعودية مبادرة لوقف الحرب وإيجاد حل سياسي للأزمة، مرورا بالعراق حيث نشطت السعودية في تعزيز علاقتها مع حكومة الكاظمي ورفع درجة إهتمامها وانخراطها، وصولاً الى سوريا حيث تبحث السعودية عن توقيت مناسب لإعادة فتح سفارتها وعودة سوريا الى الجامعة العربية بجهود منسقة مع روسيا... رغم كل هذه التطورات، لم يحصل ما يشير الى تغيير جدي وملموس في موقف السعودية من لبنان.
السعودية لا تريد دعم من يختار مشاركة الحكم مع حزب الله، ولن تقوم بمساعدة من يتحالف مع أعدائها، ومصممة على وقف أي شكل من أشكال الدعم تجاه أي حكومة يشارك فيها حزب الله طالما أنه يخاصم السعودية ولا يزال يمسك بالقرار الداخلي والخارجي للبنان ويعرقل عملية تشكيل الحكومة... يُضاف الى ذلك أن الملف اللبناني في هذه المرحلة ليس أولوية عند السعودية التي تركز على السياسة الأميركية في المنطقة وكيفية ترتيب أوراقها مع الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، ولبنان يأتي في أسفل اللائحة بعد اليمن والعراق وسوريا وفلسطين وليبيا...