اللقاء رقم الـ18 بين الرئيس ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري لم يكن من المتوقع له أن يكون لقاء الإتفاق على الحكومة الجديدة، بعد سلسلة التطورات التي حدثت في الأيام الماضية... ولكن لم يكن أحد يتوقع أن يكون على هذه الدرجة من السوء، وأن النهاية السعيدة ستنقلب الى نهاية دراماتيكية أطاحت بالحكومة وأيضا بـ"ما تبقّى من العلاقة بين الحريري وعون".
تردد الحريري في التو ّجه الى قصر بعبدا وفّكر ملياً بعدما تلقى الرسالة الرئاسية الممهورة بخط اليد وفيها إقتراح حول منهجية تشكيل الحكومة وتوزيع للحقائب، مع ترك مهمة تعبئة الأسماء للرئيس المكلف الذي اعتبر أن في الأمر "إستفزازا له" لإلغاء زيارته الى بعبدا. تشاور مع المقرببين منه وأخذ رأي الرئيس نبيه بري الذي نصحه بعدم إلغاء اللقاء مع رئيس الجمهورية حتى لا يُتهم بالسلبية والتعطيل ولا تستقر كرة المسؤولية في ملعبه...
كان اللقاء في قصر بعبدا سريعاً ومتشنجاً وعاصفاً. بدا الحريري متوترا ودخل فوراً في صلب الموضوع وبادر عون بالقول: "أنت أرسلت لي هذه الورقة وأنا لا أقبل أن أعبّي أسامي(أسماء) . أنا أرفض تلقي رسالة تحدد لي آلية تأليف أنت الرئيس المكلف الذي يُسمي أسماء الوزراء الحكومة، وأنا صاحب الصلاحية الدستورية في ذلك. فرد عون: "رئيس شريك"، فأجابه الحريري: "أنا أشكل الحكومة وأنت تصدر مراسيمها. لست أنت من يؤلفها بل أنا صاحب العلاقة. إما أن توافق عليها أو لا توافق"... خرج الحريري متجهما معلنا عن رسالة وورقة تلقاها من عون، وكاشفاً عن التشكيلة الحكومية التي أرسلة في 9 كانون الأول الماضي، وما زال متمسكا بها ويعتبرها انها الى رئيس الجمهوري صالحة وسارية المفعول طبقاً لمواصفات المبادرة الفرنسية.
إنفجار الخلاف الحكومي والعلاقة الثنائية على هذا النحو يطرح ثالث ملاحظات أساسية:
1-الواقعة وقعت بسبب خلل حصل في ميزان الحكومة والتأليف نتيجة التطورات والمواقف الأخيرة، جعل أن رئيس
الجمهورية خطا خطوة هجومية الى الأمام، فيما الرئيس المكلف خطا خطوة وقائية الى الوراء. فقد اندفع الرئيس عون بعد "جرعة الدعم" التي تلقاها من السيد حسن نصرالله، وبعد التحّول الذي طرأ على موقف جنبلاط واستدارته ناحية حارة حريك وبعبدا، بحيث شعر رئيس الجمهورية أن الحصار المفروض عليه منذ تكليف الحريري بدأ بالتفكك، وبات
لديه "فائض قوة" يكفي لأن يعتبر نفسه غير معني بتقديم تنازلات أساسية في الملف الحكومي من شأنها أن تضعف
العهد وتنهيه عمليا...
وفي المقابل، أرخت التطورات الماضية بثقلها على الحريري وتملّكه شعور بأنه يواجه ـ إضافة الى إحراج عون واستفزازه ـ حصارا سياسيا مستحدثا من جانب حزب الله وانضم إليه جنبلاط، ولا يهم إذا فعل ذلك عن قناعة ومصلحة أو لأسباب إضطرارية وخارجة عن إرداته، ووصل الأمر بالحريري الى حد تخيّل مؤامرة تُحاك ضده والحديث عن إنقلاب سياسي يتعّرض له ودفعه الى قلب الطاولة على الجميع وإحباط هذا "الإنقلاب".
2-ما جرى بالأمس كان بمثابة إعلان "إنهيار العلاقة" بين عون والحريري وانتقالها الى حال القطيعة، وبعد أشهر من التجاذبات وشد الحبال أظهرت أن "عون لا يريد الحريري رئيسا للحكومة" وأن "الحريري لا يريد باسيل شريكا في الحكومة"... وإذا كان عون عبّر عن هذه الرغبة منذ اليوم الأول وعبر "دبلوماسية الرسائل" التي بدأها مع رسالة وجّهها الى اللبنانيين عشية التكليف وأنهاها مع رسالة وجّهها الى الحريري عشية اللقاء الحاسم، فإن الحريري أظهر :تباعا حذرا شديدا لتفادي السقوط في فخ حكومة تقيّده وتقوده الى الفشل في حال لم تكن منسجمة مع الشروط والمواصفات الدولية، وغير قادرة على إستجلاب الأموال والدعم من الخارج. فكانت النتيجة أن رفع الطرفان سقف الشروط والمطالب المتعارضة، بحيث ضاقت وتلاشت المساحة المشتركة، وكل طرف ما عاد يريد حكومة إلا وفق شروطه وتصوره، وتطور الأمر من أزمة تشكيل حكومة الى إزمة صلاحيات وحكم. فالرئيس عون يعتبر أن الدستور
يجعل منه شريكا في مسار تأليف الحكومة، وأنه لن يتنازل عن دوره كرئيس للدولة في المحافظة على الميثاق وتوازن الحكومة، وخصوصا في غياب الكتل المسيحية الكبرى والوازنة. أما الحريري، فإنه يعتبر أن مهمة ومسؤولية التأليف محصورة به، ومن صلاحياته وضع التشكيلة الحكومية، فيما يقتصر دور رئيس الجمهورية على قبول التشكيلة أو رفضها، إصدار المراسيم أو عدم إصدارها.
٣- النتيجة العملية أن "التأليف طار" ولكن التكليف باق خرجت عن سيطرة الأطراف الداخلية وبلغت مرحلة اإلنسداد السياسي، مع تهافت الوساطات، خصوصا أن الوسيط الذي يملك قدرة التأثير وهو حزب الله ، فقد هذه الصفة وهذا الدور بانحيازه الى جانب عون وممارسته "أقصى الضغوط" على الحريري... وبالتالي تحقق الربط بين أزمة الحكومة والملف اللبناني من جهة، وأزمات وملفات المنطقة من جهة ثانية.
كل الإحتمالات والخيارات سقطت: لا حكومة برئاسة الحريري ولا إعتذار للرئيس المكلف، ولا تفعيل لحكومة دياب... وهذا وضع من شأنه أن يُسرع وتيرة الإنهيارات المترابطة على كافة المستويات السياسية والإقتصادية والمالية والإجتماعية والأمنية، وأن يُضاعف القلق الدولي على لبنان ومستقبله. فلا يبقى ولا حلا هذه إلا إنتظار المناخات والتحولات الخارجية في سنة "الإختبارات الأميركية والمرحلة الإنتقالية، وسنة الإنتخابات الإقليمية )الإسرائيلية والإيرانية والسورية( لتحديد مصير حكومة علاقة في شرك التناقضات والتوازنات الداخلية، ومعلّقة على خطوط التوتر العالي في المنطقة... حكومة يقول أنصار حزب الله إن الحريري غير قادر على تشكيلها بسبب حساباته السعودية والأميركية، ويقول خصوم حزب الله إن الحزب ليس مستعجلاً على تشكيلها بسبب حسابات إيران وأوراقها التفاوضية مع أميركا، والتي من بينها الورقة اللبنانية... حزب الله يلعب ويحرك من وراء الستارة، أما الخلاف المفتعل أو المضخم بين الحريري وعون فإنه "واجهة لأزمة الحكومة وذريعة لتأخيرها حتى إشعار آخر".