يعيش الشارع اللبناني تقاطعًا لأزماته الداخلية المتفاقمة مع فرض عقوبات خارجية عليه، ومقاطعة عربية لم يسبق له أن شهدها منذ تاريخ تأسيسه. فحتى في حربه الأهلية، كانت الدول العربية تحديدًا تقف إلى جانبه، وتدعمه دون تركه ينهار مهما كانت الويلات والأزمات التي تعصف به.
لا يمرّ يوم على لبنان، إلّا ويشهد تصعيدًا في مؤسساته أو في الشارع. فالإرتفاع الجنوني وغير المبرّر للعملة الصعبة أمام هبوط حاد في قيمة عملته الوطنية، حرّك الشارع من جديد، وبدأت المتاجر تشهد تهافت المواطنين إلى حدّ التقاتل من أجل الحصول على السلع المدعومة من قبل الحكومة. أمام هذه المشاهد غير المألوفة في نمط حياة اللبناني، هل نسير نحو اللبننة من جديد، وعندها سنكون مرغمين على قبول التدويل الذي بات مطلبًا بطريركيًا، للوصول إلى المؤتمر التأسيسي ؟ سيما وإنّ كافة مكونات البلد باتت مقتنعةً بأنّ النظام القائم لم يعد مقبولًا، لا بل هو من أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. فهل عدم تشكيل الحكومة إلى الآن هو البداية؟
عرفت الأدبيات السياسية مصطلح "اللبننة" بعد مرور سنوات من حرب عام 1975 الأهلية التي مرّ بها لبنان. ومصطلح لبننة في السياسة العامة يعني تحوّل دولة ما إلى دولة شبه فاشلة، تحتضن على أرضها حروب الآخرين، عبر صراعات مذهبية ومناطقية تعجز أمامها سلطة الحكومة من لعب دورها وضبط الوضع.
وصف الدبلوماسي الأميركي ريان كروكر الإستراتيجية الإيرانية في العراق عام 2007، باستراتيجية اللبننة، في دليل على اعتماد إيران لنفوذها عبر مليشياتها، بثّ روح الإنقسام بين مكونات الشعب العراقي، لا سيما بعد عجز أو تعمّد، الإدارة الأميركية عن إقامة سلطة محلية قوية لضبط البلاد.
من يقرأ الواقع اللبناني بتروٍّ وهدوء، يلحظ جيدًا التدخل الخارجي في موضوع تشيكل الحكومة. فقد كان لافتًا التهجّم غير المسبوق لقناة العالم الإخبارية الإيرانية على البطريرك الراعي واتهامه بالتطبيع وتأييد السلام مع إسرائيل. الأمر الذي استدعى ردًا معاكسًا على خلفية التدخلات في الشأن الداخلي، ومطالبة القناة بتقديم اعتذار رسميّ من الصرح البطريركي.
لم يعد خفيًا على أحد أنّ الإيراني، وعبر حليفه الداخلي لا يريد حكومة فيها الثلث المعطّل، أي لا يرغب بإعطاء قرار تعطيل أي مشروع قانون لرئيس الجمهورية. كما أنّ الجميع بات يدرك أنّ حزب الله مرتاح في وضع البلاد على ما هي عليه، فحالة الفوضى خارج مناطقه لا تقلقه، بل تجعل من لبنان ورقة تفاوض قوية في الملف الإيراني، وفي ملفات أخرى كاحتفاظه بترسانته الصاروخية، عبر أخذ الغطاء الشرعي من الحكومة. فالذهاب اليوم إلى تشكيل حكومة، سيؤدي إلى اصطدام بيانها الوزاري برفض معادلة ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، الأمر الذي قد يشعل الشارع المطالب بسحب السلاح غير الشرعي ووضعه تحت عباءة الجيش اللبناني، والبطريرك الراعي في السبت الكبير كان من المطالبين بهذا.
تعنّت داخلي في موضوع تشكيل الحكومة بين التيارين، البرتقالي والأزرق، حول الصيغة التي يجب أن تكون عليها الحكومة من جهة، وحول تفسير المواد الدستورية، لدور كل من رئيس البلاد والرئيس المكلّف بصلاحيات التدخل وتسمية الوزراء من جهة ثانية. لكن من المؤكّد أنّ الموضوع لا يتوقّف هنا، وإلا كان باستطاعة رئيس مجلس النواب، نبيه بري تدوير الزوايا، أو على الأقلّ تقريب وجهات النظر. فعلى ما يبدو لم تعد القضية "قصة رمانة، بل قلوب مليانة"، وعدم ثقة بين الأفرقاء في الداخل، وصراعات خارجية بأدوات من الداخل.
يدور لبنان في حلقة مفرغة، بين اللبننة التي باتت قاب قوسين، وسط غليان الشارع المسيّر من تفاقم الأزمات غير المحتملة، والمهيمن عليه من قبل أحزاب لا كيمياء بينها وبين العهد، وأخرى تكنّ العداء المطلق لحزب الله. هذا التشنّج المريع بين مكونات الداخل، وسط صمت دولي لا سيما من الفرنسي، من خلال غياب تام لمبادرته الإنقاذية التي لطالما تردّد على أنها لم تزل حاضرة، يدفع بلبنان لإعادة تجربة اللبننة من جديد. كيف لا، ولبنان بالأساس وعند خروجه من حربه الأهلية لم يحاسب مسؤولي الحرب، لا بل أعادهم مسؤولين في السلطة الحاكمة. فمن سمع بالأمس إلى الخارج ولبننة قضيته، ألا يعيد الكرة من جديد ويلبننها؟
أمام الدخول في نفق اللبننة، يبقى لإصرار البطريرك الراعي ودعواته إلى تدويل القضية اللبنانية، بعدما عجزت الطبقة الحاكمة من إنتاج حكومة إنقاذية، باب أمل رغم صعوبة الطرح. فلا الداخل موافق بالإجماع على هذا الطرح، بل كانت واضحة كلمة الأمين العام لحزب الله حول خطورة هذا الطرح الذي قد يؤدي الى حرب أهلية، إن استمرّت المطالبة به، ولا الخارج اليوم يضع لبنان في سلّم أولوياته، حيث تطغى جائحة كورونا وارتداداتها السلبية على الصحة والإقتصاد، إضافة إلى الملف النووي الإيراني، وغيره من الملفات ذات الأهمية القصوى التي تتطلّب المعالجة.
إذًا، قد تكون فكرة التدويل بعيدة المنال في الوقت الحاضر، لكن إن لم يتدارك الداخل اللبناني، ويقدّم التنازلات والحلول بين المكونات، فلبنان ذاهب حتمًا إلى اللبننة وبعدها التدويل، وصولًا إلى المؤتمر التأسيسي، وهناك سيتحدّد الخاسر والرابح، تمامًا كما كان بعد اتفاق الطائف عام 1990.