منذ أطلّت الأزمة الاقتصاديّة برأسها كثر الحديث عن أهمية دعم الصناعة المحليّة وتنشيط الإنتاج والتصدير للحدّ من عجز الميزان التجاري. نظرياً، تبدو هذه الأهداف قابلة للتطبيق رغم الصعوبات التي تعترضها، إلا أن الوقائع على الأرض تكشف أن السياسات الاقتصاديّة المتّبعة، والقائمة على تشجيع الاستيراد، قضت على كثير من القطاعات الإنتاجية، ومنها قطاع المفروشات، حتى بات الحديث عن إعادة إحيائها من جديد ضرباً من الخيال.
عرفت صناعة المفروشات في لبنان عزاً منقطع النظير، وشكّلت في واحدة من المراحل إحدى دعائم الصناعة الوطنيّة وأكثرها توفيراً لليد العاملة المحليّة. عصب هذه الصناعة كان متركّزاً في محافظة الشمال عموماً، وتحديداً طرابلس التي كانت تُسمى «عاصمة المفروشات في لبنان والعالم العربي».
تميّزت عاصمة الشمال بحرفة صناعة المفروشات منذ منتصف القرن التاسع عشر، قبل تأسيس دولة لبنان الكبير بحوالى 70 عاماً، ولمع اسم حرفييها وجودة إنتاجهم حتى أصبحوا مقصداً لكل من يبحث عن أثاث متين ومتقن الصنع من لبنان والمنطقة وحتى الدول الأوروبية.
كان الطرابلسيون يسترزقون من هذه الحرفة بعشرات الآلاف، ولم يكونوا في وقتها بحاجة إلى الخروج إلى الشوارع وحرق الإطارات طلباً للقوت والعمل، فأغلبهم كانوا منهمكين في محترفاتهم ويسعون خلف لقمة العيش بكرامة، إلى أن اختارت الدولة، بسوء تخطيطها، رميهم في البطالة والتخلي عنهم. يلفت رئيس نقابة أصحاب الصناعات الخشبية والحرفية والمفروشات عبدالله حرب إلى أن «قطاع المفروشات كان يشكل حوالى 60% من مجمل اقتصاد الشمال وطرابلس، وكان عدد المستفيدين من هذا القطاع والمعتاشين منه يقارب الـ 300 ألف نسمة». ضخامة العدد تعود إلى أن القطاع كان يسهم في تنشيط أعمال كثير من المهن المرتبطة به كالدهان والنجارة والتنجيد وحفر الخشب ورسمه وتجارة الأقمشة وغيرها.
من أصل 5 آلاف مؤسسة حرفيّة تعمل في صناعة المفروشات لم يبق إلا حوالى 3%
مع مطلع التسعينيات، ورغم ويلات الحرب وأثرها المدمّر على طرابلس والشمال، بقي قطاع المفروشات متماسكاً. وكان عدد المؤسسات الحرفية العاملة في المجال يومها «أكثر من 5 آلاف مؤسسة لم يبق منها اليوم هذا إلا نسبة ضئيلة لا تتخطّى الـ 3% أو الـ 4%»، وفقاً لحرب.
كانت للإنتاج الوطني مكانته، وكان المستهلكون مدركين لجودة الصناعة المحليّة قبل أن يبدأ إغراق السوق بالمنتجات المستوردة. ويشير رئيس تجمع صناعيي المفروشات جوزف الريف الى أن «الصناعة المحليّة كانت تكفي السوق الداخليّة قبل الحرب، وكان الطلب عليها يفوق الطلب على البضاعة الأجنبية». ويوضح أن «80% من إنتاجنا كان يُصرف في لبنان فيما كان الباقي يُصدّر إلى الخارج وتحديداً إلى الخليج وأوروبا وحتى أستراليا».
هل يمكن أن يستعيد لبنان مكانته في هذا المجال وأن تكون الأزمة الاقتصاديّة فرصة لنهوض صناعة المفروشات الوطنيّة من جديد؟
«الحديث عن بعث صناعة المفروشات والتصدير إلى الخارج… كلها شعارات فارغة وتمنيات بعيدة عن الواقع»، بحسب الريف. إذ أن القطاع «تعرّض لضربات متتالية منذ منتصف التسعينيات وهُشِّم بالكامل منذ حوالى 10 سنوات». فإضافة إلى «الاستيراد الإغراقي وانعدام قدرتنا على منافسة الطاقة الإنتاجية الهائلة التي تتمتع بها الدول التي تصدر مفروشاتها إلى لبنان، ساهم التهريب عبر المرفأ وإدخال البضائع المستوردة وتسجيلها تحت بنود جمركية أخرى، في القضاء على ما تبقّى من مؤسسات». والخلاصة «انقراض اليد العاملة في المجال بشكل شبه كامل. فكيف لنا أن نصدّر إن لم يعد هناك عمّال في الأساس. صناعة المفروشات اللبنانية حرفة عالية الجودة وتتطلب يداً عاملة ماهرة ومحترفة، فيما اليد العاملة الأجنبية خصوصاً من الدول المجاورة تفتقر إلى الخبرة اللازمة».
«لا أمل» بالنسبة إلى الريف، إذ أن الموادّ الأولية والأدوات الضرورية للتصنيع بدأت تُفقد من السوق لأنها جميعها تُستورد، و«لم يعد يوجد خشب، والغري مفقود، وحتى البراغي والمسامير غير متوفرة… كل شيء مفقود».
رغم تشديده على أن «الحمايات الموجودة غير كافية فيما يجري إغراق السوق بالمفروشات المستوردة»، يحافظ رئيس جمعية الصناعيين فادي الجميّل على تفاؤله بأن «الصناعة المحليّة تمتلك فرصة، لكن مقوّمات نجاحها ليست البضاعة الرخيصة بل الحرفية العالية والابتكار اللذان يسمحان بإبراز جودة الإنتاج. بالتالي أساس المعركة ليس في تخفيض الأسعار بل في التميّز والمهارة في التصنيع».
«منجرة»… بارقة أمل؟
«منجرة» منصة انطلقت عام 2018 بتمويل من الاتحاد الأوروبي وتنفيذ الوكالة الفرنسية للخبرة الفنية الدولية «إكسبرتيز فرانس»، بهدف «تقديم الدعم التقني للعاملين في قطاع المفروشات في طرابلس وتوفير مكان للتواصل والتعاون بين كلّ العاملين في القطاع» بحسب المهندسة نور صوايا، العاملة في مجال الطلبات الخارجية في المؤسسة.
تشير صوايا إلى أن المشروع الذي يمتد على مساحة 1500 متر مربع في معرض رشيد كرامي الدولي «يوفر آلات ومعدات حديثة موضوعة مجاناً في خدمة كلّ العاملين في المجال من نجارين ودهانين، يمكنهم استعمالها لتنفيذ أعمالهم الخاصة وبدون أي مقابل». وتوضح أن «عدد المستفيدين من المنصة كبير جداً، لكنّ الأزمة الاقتصاديّة كان لها أثر كبير على أعمالنا كون المواد الأوليّة مستوردة بأكملها. وانعكاس الأزمة على القدرة الشرائية للمواطنين ظهر جلياً من خلال طلباتهم التي انخفضت وباتت تنحصر في الأساسيات».