مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، ظهرت كارثة جديدة، تمثَّلت في جائحة إنفلونزا، فقد تركت في أعقابها جثثاً أكثر من الحرب ذاتها، لكنَّ جائحة عام 1918 طغت عليها الحرب، وذهبت دروسها أدراج الرياح.
بعد مئة عام، يواجه العالم اختباراً مشابهاً. فعندما ينحسر كوفيد-19 في نهاية المطاف، هل سنتعلَّم تلك الدروس التي يلقننا إياها؟، وهل بمجرد انحسار حالة الطوارئ، وعودة الحياة إلى “طبيعتها”، سنعود إلى ما كنَّا عليه من قبل؟
عاجلاً أم آجلاً، قد يظهر فيروس جديد أو يعاود ظهوره، وقد يكون أكثر قابلية للانتقال من فيروس كوفيد 19-أو أكثر ضراوة أو كليهما في الآن ذاته. لكنَّ الجهود المبذولة لتحديد الفيروسات الجديدة الخطيرة لا تزال محدودة. إنَّ الوباء يحتل مكان الصدارة في اهتمامات الجميع، ومن الضروري تسخير هذا الشعور بالصدمة والإلحاح، والبدء في بناء الأنظمة التي ستجعلنا مستعدين عندما تصل الجائحة التالية، لأنَّ الأمر لا يتعلق بما إذا كان ذلك سيحصل، ولكن متى سيحصل؟ لذلك؛ فإنَّ ثمَّة احتياجات مُلحة سنحتاجها الفترة المقبلة، وهو ما سنتناوله في السطور التالية:
يجب أن يشارك العلماء في جهد دولي لدراسة الفيروسات المنتشرة في الحيوانات، التي يمكن أن تنتشر وتصيب البشر، بما في ذلك رسم خرائط النقاط الساخنة لمسبِّبات الأمراض والعمل مع قطاعي صحة الحيوان والبشر باتباع نهج “صحة واحدة”.
ففي أعقاب تفشي فيروس إيبولا في غرب أفريقيا بين عامي 2014 و2016، نشرت منظمة الصحة العالمية مخطط البحث والتطوير للأوبئة، الذي أعطى الأولوية لفيروسات كورونا كأحد مسبِّبات الأمراض التي تحتاج إلى مزيد من البحث والتطوير. ولا تزال هناك حاجة طارئة للمزيد من البحث المنسَّق على مستوى العالم، من أجل الوصول إلى فهم أفضل لخصائص مسبِّبات الأمراض، التي تجعلها تهديدات وبائية، وللتطوير السريع لاختبارات التشخيص، والعلاجات، واللقاحات.
المزيد من الرقابة العالمية
كذلك؛ فإنَّ هناك حاجة إلى مزيد من المراقبة العالمية على البشر والحيوانات (الداجنة والبرية) للكشف السريع عن التهديدات الجديدة والقائمة. وتعمل منظمة الصحة العالمية مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، والمنظمة العالمية لصحة الحيوان (OIE) لتحسين الرقابة العالمية، لكنَّ مستويات الاستثمار منخفضة، والنظم لا تزال غير كافية. إذ يجب أن تكون الرقابة في الحيوانات والبشر على المستوى المحلي مع آليات إبلاغ قوية للإبلاغ بسرعة عن أيِّ شيء غير عادي.
المزيد من البيانات المحلية
تحتاج جميع البلدان إلى تعزيز مراقبة مسبِّبات الأمراض المعدية، بما في ذلك التسلسل الجيني، مما يسمح بإجراء تحليلات قوية، يمكن أن تؤدي إلى استخدام دقيق وموجه للتدابير بهدف منع انتشار المرض، ويوفِّر أيضاً إمكانية اكتشاف الطفرات التي تؤدي إلى متغيِّرات فيروسية جديدة. (هذه هي الطريقة التي حددت بها الدنمارك، وجنوب إفريقيا، والمملكة المتحدة، والبرازيل، المتغيِّرات المهمة لسارس-كوفيد-2.). ففي الوباء الحالي، كانت المختبرات الأمريكية تتعقَّب حوالي ثلاثة فقط من كل 1000 مريض. وتعمل منظمة الصحة العالمية على زيادة قدرة التسلسل الجيني على الصعيد العالمي.
المزيد من منصات اللقاحات
بالرغم من السرعة التي تمكَّن بها صانعو الأدوية من إنتاج لقاحات كوفيد- 19 العام الماضي، فقد كان بإمكانهم فعل ذلك بشكل أسرع إذا تمَّ بالفعل أخذ نماذج أولية لمنصة اللقاح الجديدة، مثل (MRNA) وغيرها، من خلال تجارب المرحلتين الأولى
والثانية لتأكيد السلامة، ومقدار جرعة فيروسات كورونا. وهناك حاجة إلى المزيد من “منصات” اللقاحات القابلة للتعميم لكلِّ نوع من أنواع الفيروسات الوبائية المحتملة، ومع زيادة القدرة على التصنيع عبر كامل سلاسل الإمدادات، وذلك لأنَّ الجهود العالمية أمر ضروري؛ لابتكار لقاحات وعلاجات عالمية قادرة على الحماية من أصناف أكبر من الفيروسات ذات القدرة الوبائية، كالفيروسات التاجية وفيروسات الإنفلونزا وغيرها.
مزيد من التنسيق
هناك حاجة ماسة إلى التعاون – محلياً ووطنياً ودولياً – لمواجهة تهديدات الأوبئة والجوائح. إذ تعدُّ التجارب السريرية القوية القابلة للتنفيذ، والمنسقة، والمصمَّمة بسلاسة بالغة الأهمية للحصول على المعلومات اللازمة لجعل المنتجات تلبِّي أعلى المعايير الدولية للقرارات التنظيمية، وتلك المتعلِّقة بالسياسات. ويجب أن يكون العالم جاهزاً للحصول على سلاسل التوريد، والبروتوكولات لتوزيع الإمدادات، واختبار الأشخاص، وجمع البيانات الصحية ذات الصلة بالإضافة إلى توزيع اللقاحات.
المشاركة المجتمعية والتواصل
لقد ارتبط “الوباء المعلوماتي” بجائحة كوفيد-19، مما يتطلَّب استجابة هائلة لمعالجة المعلومات الخاطئة، والكشف عن جميع جوانب الفيروس، والتدابير المستخدمة لإيقافه؛ فالمعلومات الخاطئة والمضللة أسرع من الفيروسات، ويمكن أن تكون مميتة.
المزيد من الرعاية الصحية الأولية
إنَّ الرعاية الصحية الأولية، هي عيون وآذان كل نظام صحي، وهي الأساس للاستعداد، والوقاية، والكشف، والاستجابة السريعة لحالات الطوارئ من جميع الأنواع، من تفشي الأمراض المعدية إلى أوبئة الأمراض غير المعدية، مثل: السرطان، والسكري، والأمراض غير السارية كأمراض القلب، والأوعية الدموية.
وقد كانت الأمراض غير المعدية عاملاً رئيسياً في دخول المستشفيات والوفيات بسبب فيروس كوفيد-19 مراراً، ولو كان عدد الدول التي اتخذت خطوات أكثر جرأة للحدِّ من الأمراض غير المعدية أكبر؛ لكان هناك عدد أقل بكثير من الوفيات أثناء الوباء، فلا يمكننا أن ندع ذلك يحدث مرة أخرى.
هناك مجموعة واسعة من السياسات التي أثبتت جدواها، التي يمكن للحكومات المحلية والوطنية استخدامها لمكافحة الأمراض غير المعدية، من الأماكن العامة الخالية من التدخين، والتحذيرات المصورة على عبوات السجائر، إلى تحسين ملصقات الأطعمة، وحملات التوعية العامة حول الدهون غير المشبعة، والمشروبات السكرية، وصولاً إلى ممرَّات الدراجات التي تعزِّز ممارسة الرياضة، وتقلِّل من تلوُّث الهواء من خلال توفير بديل للسيارات.
بإمكاننا إنقاذ ملايين الأرواح، من خلال القيام باستثمارات مهمة تحضرنا بشكل أفضل للوباء القادم، مع تبنِّي سياسات تخفف من تأثيره، ويجب ألا ينتظر هذا العمل حتى زوال تهديد كوفيد-19؛ يجب أن يبدأ الآن.