عندما اندلعت الاحداث في طرابلس الاسبوع الماضي وكانت مزيجا" من مكونات وعناصر اقتصادية اجتماعية وسياسية وامنية، توزعت التحليلات والتقارير في تحديد المسؤوليات والجهات المحركة والمتورطة بين جهات ومجموعات طرابلسية تابعة او موالية لشخصيات وقوى مثل بهاء الحريري واشرف ريفي ورموز اسلامية وبين مجموعات وخلايا مرتبطة بتركيا وموالية لها بعدما باتت تركيا صاحبة الحضور الاقوى على الساحة الطرابلسية وبعدما باتت طرابلس "تركية الهوى"... وكان لافتا" في اليوم التالي للأحداث ان يقصد السفير التركي في بيروت هاكان تشاكل رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب لابلاغه استعداد بلاده للمساعدة في اعادة ترميم بلدية طرابلس والسراي والمحكمة الشرعية جراء الاحداث الامنية التي حصلت في الايام الماضية وكذلك استعداد تركيا لتقديم مساعدات اجتماعية للعائلات الاكثر فقرا" في طرابلس والمتضررة من الاحداث.
قبل احداث طرابلس، كان الرئيس سعد الحريري في تركيا يلتقي الرئيس رجب طيب اردوغان ويجري معه على امتداد ساعتين محادثات شاملة تطرقت الى شمال لبنان، ووجه الحريري سؤالا" الى اردوغان يستوضح فيه ما يقال عن اهتمام ونشاط تركي في شمال لبنان ونفى اردوغان بأن يكون هناك أي اجندة تركية في لبنان، واما سؤال الحريري فأنه جاء على خلفية احداث متنقلة شهدها شمال لبنان في الاشهر الاخيرة على يد خلايا أمنية وارهابية لها صلة بتنظيمات في شمال سوريا، وعلى خلفيات مداولات وتقارير في المجلس الأعلى للدفاع جاءت على ذكر تركيا ونفوذها في شمال لبنان .
الرئيس سعد الحريري فتح قنوات اتصال مع الرئيس التركي عبر مساعده ابراهيم قلاين الذي أبلغه استعداد اردوغان لدعمه ومساعدة لبنان في ازمته الاقتصادية. وحاول الحريري استخدام هذا التواصل لاثارة او استفزاز السعودية ولفت نظرها الى وجود بدائل لديه في حال استمرت في مقاطعته ولكن لا السعودية أعطت أهمية للأختراق التركي و "رسالة الحريري" ولا الحريري يتجرأ على تطوير علاقته مع الأتراك كي لا يكلفه ذلك قطع آخر خيوط العلاقة مع السعوديين
وايضا" خسارة علاقته الجيدة مع المصريين والاماراتيين.
حزب الله تابع باهتمام التغلغل التركي طبيعته واهدافه وتلقى رسائل عبر قناة خاصة من الاتراك مفادها ان الدور التركي في لبنان لا يتجاوز الاطار السياسي وعبر علاقات وجمعيات وان لا اجندات امنية ضد حزب الله رغم خلاف تركيا المستحكم مع النظام السوري، وان الحركة التركية في لبنان موجهة بشكل اساسي ضد السعودية وحلفائها .
ويبدو ان هناك اهتماما" عربيا" ) سعودي مصري اماراتي... وسوري( بمسألة دخول تركيا الى الساحة اللبنانية من البوابة السنية.
العرب يضعون ذلك في اطار معركة الزعامة على العالم السني من جهة والمشروع التركي المتمدد في المنطقة من جهة ثانية.
هل وجود النفوذ التركي في لبنان انطالقا" من شماله حاصل ام مبالغ به؟! واقع ام هاجس؟!
بدأ الحضور التركي في لبنان يقوى منذ العام 2015 ، وفي موازاة تدخلها في شمال سوريا، تزايد اهتمام تركيا بشمال لبنان وتحديدا" المنطقة السنية في الشمال اي طرابلس- عكار- الضنية... مستفيدة من حالة الفراغ التي أحدثها انكفاء السعودية عن لبنان، وفي احدى زياراته النادرة الى لبنان )عام 2010 )تقصّد الرئيس التركي اردوغان زيارة عكارمتفقدا" سكان بلدة الكواشرة الذين يتحدّرون من أصول تركية ويتكلمون اللغة التركية.
الوجود والنفوذ التركي في لبنان يتوزع على ثالث نواح اساسية:
١-الناحية الاجتماعية من خلفية دينية اي المساعدات الاجتماعية والطبية والتربوية (منح تعليمية لآلاف الشباب) التي تقدمها تركيا عبر جمعيات دينية مرتبطة بها. وهذه العملية تتم تحت اشراف وادارة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ومع جماعات ومنظمات دينية أبرزها "الجماعة الاسالمية" )فرع الاخوان المسلمين في لبنان( والجماعة السلفية التي كان يمثلها داعي الاسالم الشهال )أقام في اسطنبول وتوفي هناك منذ أشهر ويعد الآن الشيخ سالم الرافعي من أبرز رموزها.
ومع تفاقم الازمة الاقتصادية الاجتماعية في لبنان رفعت تركيا حجم مساعداتها مستغلة حالات الفقر والعوز، وهنا تلعب الجمعية التركية "تيكا" دورا" أساسيا" في سياسة المساعدات وفي أداء دور صلة الوصل بين تركيا والجهات والمجموعات اللبنانية الاسالمية.
واشارة ايضا" هنا الى ان كثيرين من رجال الاعمال الذين يدورون في فلك "الجماعة الاسالمية" يقومون بأعمال وأنشطة تجارية مالية في تركيا خصوصا" في اسطنبول وأقليم هاتاي ) الاسكندرون المحاذي للحدود مع سوريا) .
٢ -الناحية الأمنية اي الأنشطة الأمنية والاستخباراتية التي تقوم بها مجموعات وخلايا متطرفة متواجدة في شمال لبنان وعلى صلة بمجموعات موالية لتركيا في شمال سوريا خصوصا" أدلب وحيث تتم عملية التواصل عبر اراضي تركيا.
هذه الناحية توليها الاجهزة اللبنانية الامنية اهتماما" مركزا" وتحسبا" لتسلل عناصر من داعش والنصرة عن طريق البحر وعبر الحدود مع سوريا. وارتفعت درجة الاهتمام بعد التطورات والاحداث التي حدثت قبل اشهر في مناطق شمالية مثل الكورة والضنية (خلية كفتون الارهابية) وحيث تبيّن أن مخيم البداوي هو نقطة التمركز والانطلاق لهذه الخلايا وأن عناصر فيه على اتصال مع عناصر اسلامية في شمال سوريا، وقد طرح هذا الموضوع الأمني لأكثر من مرة في اجتماعات المجلس الأعلى للدفاع الذي استمع الى تقارير قادة الأجهزة في هذا الموضوع. التقارير أشارت الى وضع كل منطقة الشمال تحت رقابة مشددة وكذلك الأمر بالنسبة لحركة الأموال المحولة او المهربة من تركيا الى لبنان.
ولكن التقييم العام للأجهزة اللبنانية الأمنية يفيد أن النشاط الأمني التركي في لبنان ليس كبيرا" ولا يكتسب خطورة حتى الآن وأن جهاز المخابرات التركية المركزية لم يطوّر عمله في لبنان بطريقة مقلقة وخطيرة.
٣ -الناحية السياسية اي العلاقات التي تقيمها تركيا وتبنيها مع شخصيات وقوى سنية في الشمال بشكل خاص وفي لبنان بشكل عام. وهذه الناحية برزت بوضوح وسرعة خلال العام الماضي. وبعدما كانت عالقات تركيا محصورة اولا" بالرئيس سعد الحريري حصل تغيير في نمط وطبيعة العلاقات وتحّول اهتمام تركيا الى شخصيات اخرى مثل اللواء اشرف ريفي في مرحلة سابقة، بهاء الحريري شقيق سعد (الذي مثّله في اسطنبول نبيل الحلبي) وأقام أنشطة سياسية واجتماعية
وفكرية تحت ستار " المنتديات". ولكن بهاء قطع عالقته مع الحلبي وابتعد عن تركيا بعدما وجد أن هذه العالقة تضره كثيرا" وتنعكس سلبا" على عالقته مع السعودية والامارات.
مثلٌ آخر النائب فيصل كرامي المعروف بعلاقته مع النظام السوري وتحالفه مع حزب الله، اختار منذ أشهر تركيا وجهة" لتحالفاته الخارجية. وهو فعل ذلك للحصول على اموال ومساعدات لتلبية حاجات أنصاره في طرابلس، ولحماية نفسه سياسيا" وشعبيا" وسط بيئة طرابلسية متحولة في اتجاه الأتراك، وللتعبير عن استياء واحتجاج على طريقة معاملة الحلفاء له (خصوصا" حزب الله وبري) بدءا" من تسمية مصطفى اديب لرئاسة الحكومة من دون ان يتم اعلام كرامي والتنسيق معه وصولا" الى عدم اعطائه وزيرا" في حكومة الحريري المرتقبة... (كرامي ممثل في حكومة دياب بوزير الاتصالات طلال حواط).
العلاقات السياسية التي تبنيها وتنسجها تركيا مع شخصيات وفعاليات طرابلسية متعددة، وفي ظل بيئة شعبية حاضنة ستظهر نتائجها في الانتخابات النيابية المقبلة التي ستكون مؤشرا" الى مدى تنامي حضور تركيا ونفوذها الشعبي والسياسي وهذه هي المرة الاولى التي يجري الحديث فيها عن احتمال وامكانية ان نرى في البرلمان المقبل مجموعة نواب او كتلة نيابية محسوبة على تركيا وتدور في فلكها.
الاهتمام التركي السياسي يتجاوز ارض الشمال وعددا" من المناطق (صيدا- اقليم الخروب- البقاع الغربي) الى السلطة اللبنانية المركزية والى العاصمة بيروت حيث يريد اردوغان تعزيز العلاقات الرسمية الثنائية بين لبنان وتركيا على المستويين السياسي والاقتصادي. ويريد خصوصا" مزاحمة فرنسا ومنافستها في لبنان )الذي حكمته تركيا السلطنة العثمانية لـ 400 عام وحكمته فرنسا لـ 30 عاما بشكل مباشر عبر الانتداب(. وزيارة نائب الرئيس التركي فؤاد أوكتاي ومعه وزير الخارجية مولود اوغلو الى بيروت في اليوم التالي لزيارة الرئيس الفرنسي ماكرون الاولى الى بيروت مباشرة بعد انفجار المرفأ في 4 آب، هذه الزيارة التركية كشفت الصراع والتنافس بين تركيا وفرنسا على مستقبل لبنان. وهذا الصراع يشمل اقتصاديا" مسألتين: اعادة اعمار مرفأ بيروت، والتنقيب عن النفط والغاز في المتوسط... الفرنسيون بشكل خاص والاوروبيون بشكل عام حساسون تجاه التمدد التركي في اتجاه لبنان ويدرجونه في اطار سياسة الاستفزاز التي يتبعها اردوغان من المتوسط الى اذربيجان ومن ليبيا الى لبنان.