عاب عليّ كثيرون من أصدقائي في حقبات متتالية وبزعم متشدّد وربّما متجنّ، أنني متنكّر لموجوديّة الكوفيد-19. لهؤلاء ألفت النظر، وببساطة، بأنّني لم أتنكّر ولا مرّة لموجوديّته، ولكنّني تنكّرت لتوصيف اعتبر بأنّه قائم بذات سلطانه، وبقوّة ذاته يقوم بالفتك والقتل.
للتدليل على استمساكي بتصنيعه، وليس أنّه قائم بذات سلطانه، تساءلت كما تساءل كثيرون غيري، عن التصاعد الفجائيّ لسلالة جديدة للكوفيد واردة من بريطانيا، في اللحظة التي ظهرت فيها مجموعة لقاحات رأى فيها كثيرون وكأنها الترياق الآتي من العراق، أو كأنّها خشبة خلاص، على الرغم من عدم التوافق حول ما إذا كان فعلاً مرساة نجاة للمصابين بالكوفيد، فانطلق رئيس حكومة بريطانيا يبشّر العالم بجحيم آخر، سيجتاح العالم بشراسة وضراوة.
على هذا أكرّر بانّ الكورونا وجد لصفات ووظائف عديدة تختّص بالأنظمة والبشر، وما سرعة انتشاره كالعاصفة الهوجاء سوى تأكيد لماهية الوظائف والصفات المتواجدة فيه والمنبثّة منه. ليست الخطورة القائمة في الفيروس بااستهداف الإنسان بصحتّه فقط وتهديده فاقدي المناعة أو المكتوين بالأمراض والالتهابات بالموت، بل بالاستهداف المعنويّ والنفسيّ والاجتماعيّ للإنسانية، بطبيعتها وجوهرها، ممّا يجعلنا نطرح السؤال عن مستقبل الإنسان بواقعه السيكولوجيّ والسوسيولوجيّ في مرحلة الكورونا وما بعدها.
من وظائفه الظاهرة تصدّع الأنظمة الاقتصاديّة داخل كلّ بلد من بلدان العالم، في النظام العالميّ بأسره. ليس التصدّع بطبيعته بريئًا من العيب، بل منظّم لطيّ صفحات الأنظمة بنيويًّا مع طيّ صفحة نظام عالميّ قديم وتكوين نظام عالميّ جديد وآخر بمكنونات مختلفة ومدلولات غريبة لا تنتمي إلى تراث أدياننا وحضاراتنا. لقد وجد الفيروس ضمن منظومة حرب عالميّة ثالثة بصفة جرثوميّة، والناس في العالم تقتل بواسطته وتسقط كالعصافير من أعشاشها وفضائها، وإن لم يبلغ أعداد الوفيات به عالميًّا كما بلغت خلال الحمة المالطية وقد حصدت في سنة كاملة 48 مليون شخصًا فيما وفيات الكوفيد في العالم لا تربو على المليونيّ إنسان، ومع هذا لا يجوز اعتبار الإنسان رقمًا بل هو كيان إلهيّ صانع للتاريخ والمستقبل. هذا الانتشار الواسع والسريع له والقاتل والمعطّل يؤكّد المعاني الدفينة والمحياة من الذين صنّعوه.
الجميع ينظرون إلى علاج الإنسان الجسديّ من الكوفيد، ولكن لم ينظر أحد إلى العلاج النفسيّ في لحظات التمزّق الشديد بسبب الرزوح تحت ثقافة الخوف والرعب.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، اتصل بي صديق عزيز، صودف أنّه أصيب بالكوفيد خارج لبنان، سمعته خائفًا ومرعوبًا، قلت له يا صديقي لماذا أنت خائف لهذه الدرجة، اجابني لقد أصبت بالكورونا، ولا أعرف ماذا سيحدث لي، قلت له وببساطة، إن اجتاحك الرعب ومزقّك فالكوفيد لا محال سيستبدّ بك وقد يتجه استبداده نحو القضاء عليك لا سمح الله، أمّا إن تماسكت وصلبت يدك على وجهك فستراه هزيلاً ضعيفًا لن يقوى عليك البتّة، وستشفى منه وتعود إلى صحتك وعافيتك.
بعد يومين اتصلت به للاطمئنان عليه، فأجابني لقد تماسكت ومتنت ثقتي بالله تعالى وبنفسي وصليت من كل قلبي وقررت المواجهة، وأشعر انني أفضل بكثير ولعلّي سأشفى قريبًا وسأهزمه وهذا ما حدث. هذا الفيروس يشبه كلبًا شاردًا إن هربت منه مسرعًا وخائفًا فسيهجم عليك ويطرحك أرضًا ويعضّك وقد ينهشك ويمزّق جسدك، وإن أنت وقفت بوجهه بثبات وعدم خوف، فهو حتمًا سيهرب منك لأنّه عارف أنك ستبدو أقوى منه. الإعلام في لبنان للأسف الشديد يمعن في إشاعة الخوف والرعب، ولا يمعن في تمتين المواجهة مع الكوفيد بإرشادات حاوية الرجاء.
سأفترض في تلك العجالة، بأنّ الإصابات متكاثرة وبشدّة، وسأفترض بأنّ المجتمع اللبنانيّ مصاب ومريض، فهل المطلوب إرهابه ليشتد موته، أو المطلوب معالجته جسديًّا ونفسيًّا في آن حتى يطيب؟ عندي ابن عمّ طبيب لامع وساطع مهنيًّا وخلقيًّا حين ألقاه باسمًا كدأبه أشعر بأن همومي تزول وما أشعر به ينتهي. المجتمع اللبنانيّ يحتاج إلى توعية نوعيّة مليئة بالآمال، وليس إلى اضطهاد يفجّر الآلام.
ما هو المطلوب في الواقع؟ تفعيل الإرشاد، بطرائق جديدة، تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الإنسان النفسيّة وأوضاعه الاقتصادية ووضع لبنان بصورة عامة، وفي الوقت عينه تقوده ليكون أمينًا على صحته وصحة سواه حتى لا تنتقل العدوى وتتفشّى. ففي المسيحيّة، المحبّة تتطلّب الأمانة على الذات وعلى الآخرين، وكلّ تنكّر لها انفصال عن حقيقة الله. وفي الإسلام تقود الرحمانيّة أو التراحم إلى الهدف ذاته. ما يفترض بنا توعية الناس على إحساس الأفراد مع بعضهم برهافة وأخلاق، وبالتراءف والتراحم، فتبقى المحبة التي ترأف وترحم وترقّ وتحنو وتلطف ولا تستكبر أو تظنّ السوء رابطة وراسخة وفاعلة أقوى من المرض والموت، وتظل العلاقة بين الناس من هذه الزاوية متأصّلة وأصيلة. هذا يقتضي وبحال كنت مصابًا بالزكام والرشح والبرونشيت أن تلتزم بمنزلك وبإرشادات طبيبك حتى تطيب، فلا تزور ولا تزار، هذه من المسلمات الأخلاقيّة والقيميّة الراقية. فما يجوز على الأمراض المعروفة والمعدية يجوز بدوره على الكوفيد-19، وهو الأكثر انتشارًا بل الأسرع. الأرقى والأفضل لمن أصيب أن يلتزم منزله ولا يخرج منه حتى يشفى، فيعود بعد شفائه إلى حياته الطبيعيّة في عمله، ولقاءاته مع أصدقائه وأقربائه.
الخطورة التي تواجهنا في هذا الفيروس، وهذا ما يدفعنا للشكّ، ذلك الخلاف المتوسّع حول الفيروس وعلاجه. أفترض وبهدوء بأنّ العلم لا يحتمل التأويل والاجتهاد، بل ينطلق من معادلات علميّة طبيعيّة ومعتمدة Equations ومن شأنها حتمًا وبتحليل حسابيّ أن تقود إلى النتيجة المرتجاة أو إلى العلاج. بيد أننا وفي تلك الحالة التي نحن بصددها نفتقر إلى المعادلات العلميّة الصافية، فبتنا تحت سيطرة الاجتهادات، ورزحنا تحت هيمنة الانفعالات، ممّا يفترض بأن نوعية الفيروس نابعة من تصنيع أريد له أن يبقى قيد الإبهام والضبابيّة. كما أنّ اللقاحات سواء صدرت عن Pfizer أو Moderna أو أوكسفورد، لم تحز، وحتى كتابة تلك السطور وصدورها، على إجماع واحد في التوصيف والتقييم والتشخيص بعكس أدوية أو لقاحات نالت إجماعًا واحدًا فتمّ التداول بها. وهذا عينًا ما يدفع المتابعين إلى التساؤل عن سرّ الخلاف وعدم الاتجاه نحو الاتفاق ضمن منهجيّة علميّة وصارمة؟ وثمّة من يسقط اللقاح في مشروع كونيّ خطير وعدائيّ على البشريّة يقوده بيل غيتس مع مجموعة من الناس حوله، وهذا ما يفترض التدقيق به وبشدّة، وكشف الحقائق المحيطة به أو الصادرة عنه من دون وجل أو خجل، لترتاح القلوب، وتهدأ النفوس وتتوازن العقول. وهنا لا بدّ من الإشارة بأنّ منظمة الصحة العالميّة تفتقر إلى المناقبية الأخلاقيّة والصدقيّة العلميّة والطبيّة، وإلاّ لكانت تحرّكت وجاءت بأطباء وعلماء عظام ودفعتهم خارج المؤثرات المالية والسياسيّة، لقراءة واحدة للفيروس واللقاح بتقييم علميّ صارم وشفاف وشاف.
نعود إلى واقعنا في لبنان، للتأكيد بأنّ البلد بات بأكمله تحت تأثير الفيروس وسيطرته، والسبب ناشئ من سهرات رأس السنة المتفلّتة من الضوابط. المطاعم والفنادق ربحوا المال ولكنّنا في المقابل خسرنا الأحباء، ودخلنا في أتّون وبائيّ متأجّج، ولم نحسن على الإطلاق طرائق التعامل معه حتى نتفادى الخسائر.
ومع ذلك نحن أمام تساؤل ضروريّ، هل إنّ إغلاق البلد ومنع التجوّل يملك القدرات على منع تفشّي الوباء؟ في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، لم يحدّ الإغلاق من تخفيف الإصابات بل بقيت متصاعدة، وفي أميركا وعلى الرغم من توزيع اللقاح فإن النتائج غير مشجّعة. بمعنى أنّ الإغلاق في لبنان بتلك الطريقة الممارَسة غير نافع. السؤال المطروح على الدولة اللبنانيّة هل تستطيع الدخول إلى مناطق كطرابلس وصيدا وصور وبعلبك والضاحية لتفرض الإغلاق وتحمي الناس؟ الجواب الواضح أمامنا أنها غير قادرة، فما معنى هذا الفرض على منطقة جبل لبنان وصولاً إلى الكورة وبشرّي من دون بقيّة المناطق اللبنانيّة؟ وبحال طال المطال ماذا نفعل بالعمّال والموظّفين، هل من ضمان بأنّ أرباب العمل سيبقون يمدونهم بالمال؟
لقد سبق لي أن اقترحت على وزارة الصحة الحلّ التالي، وبرأيي هو الأكثر نفعًا وفعاليّة، وأعيد اقتراحه في تلك العجالة، إجراء مسح شامل للمناطق الموبوءة، أو حيث الوباء يبدو فيها منتشرًا بقوّة وعزلها عن سائر المناطق المحيطة بها. لقد أدى عزل مدينة بشرّي حين منيت بالفيروس، إلى نجاح باهر في القضاء عليه، وهذا بدوره حصل في عدد من المناطق. لن يفيد الإغلاق العام في لبنان، بل ما يفيد إغلاق القرى الموبوءة أو الأقضية الموبوءة بصورة متشدّدة وتقديم العلاجات الضروريّة لها حتى تشفى وتعود إلى انتظام الحياة فيها بصورة طبيعيّة.
وأخيرًا ثمّة أمر بغاية الأهمية والخطورة، عنوانه احتقار المتوفين من جرّاء الوباء، فلا تجرى لهم جنازة طبيعيّة ولا يدخلونهم إلى الكنيسة للصلاة عليهم. ألهذه الدرجة وصلنا في تعاطي الكنيسة مع أمواتنا الذين يتوفون من جرّاء الكوفيد؟ هذا يتنافى مع أخلاقنا وإيماننا ولاهوتنا، ومن يرمي بأمواتنا في المدافن بهذه الطرائق البشعة إنما يرتكب جريمة وخطيئة بحقّ يسوع المسيح الحيّ، وقد لبسه الأخ الراقد أو الأخت الراقدة منذ لحظات المعموديّة، وهما مختمومان بالثالوث القدوس حين اقتبلا سرّ الميرون المقدّس.
لن نسمح بعد الآن بدفن موتانا بهذه الطرائق المهينة، والمراجع الروحيّة مطلوب منها أن تعيد قراءتها لهذا الموضوع. إنّه موضوع إيمانيّ ووجوديّ ولن نفرّط به حتى لو اقتضى الأمر الاعتصام في كلّ مكان. الراقد بسبب الكورونا راقد على رجاء القيامة والحياة الأبدية، وهو أخ كريم، ولا يمكن له أن ينقل العدوى إلى أحد، لأن الحياة قد توقفت في جسده، والعدوى كما بات معروفًا تنتقل بالنفس، أي بالعطس والسعال، كما نرفض أن لا تستعاد مراسم التعازي حين يخفّ سعير الوباء، وحتى لو بقي، القاعات حين تعقّم والناس حين يحرصون على الحماية يسوغ لنا فتحها للتعازي.
في الختام نصلّي لله عزّ وجلّ حتى يترأف علينا ويحمينا من خطورة هذا الفيروس. إيماننا الكبير أننا مشرفون على الغلبة بقوّة المحبّة وبهاء القيامة. أقبلوا إلى الله بحب فتروه فيكم ومعكم مواجهًا ولكم حاميًا.