بقلم جورج عبيد -
رحلت خالتي كلير صليبي شعيب مع طلوع الفجر. الوجه المرصّع بالضياء اكتمل بنور السماء واحتجب خلف اللامدى تاركًا لنا إرثًا كبيرًا من المحبّة، والمحبة لا تسقط أبدًا.
هذه الغالية رافقتني في لحظات الفرح والوجع. هي وخالتي نهاد (أطال الله بعمرها) مديان لوالدتي، فقد ربينَ معًا عمرًا مديدًا فيه الكثير من البركة والخير والسلام. والبطن الذي حبل بهنّ زرع في أفئدتهنّ الشوق في الزمن وما فوق الزمن.
لن أتكلّم كثيرًا عن طفولتي لئلاً أحبس نفسي كثيرًا في الحنين، والمخيف هنا أن تصير جامدًا تجهد لاستعادة الزمن الماضي الجميل وكأنك تهرب من زمنك إليه لتبني لنفسك صرحًا سيهوي إذا ما استفاقت اليقظة فأيقنت الواقع، أو رأيته جلاّدًا لك بسوط عبثيّ يرميك في الوجع وفي اللاطموح.
ومع هذا ليس لك أن تنفصل عن تاريخك الشخصيّ اللصيق بوجوه أنعشتك في البشرة وزرعت فيك قيمًا قادتك إلى السلام والسماح، فكانت لك مطلاّت فجر ومطارح سجود وممرّات للنور، من انسلخ عن تاريخه فقد مستقبله. والمقاربة هنا لن تكون قبوريّة بل صلاتيّة تزرع السماء فيك مكان القبور وتجعلك رانيًا نحو عرش الله.
مقاربتي لخالتي كلير تنبع من انغماسها بي وانغماسي بها، من الطفولة إلى الكهولة. ما أوجعني في رحيلها أنّها ذهبت مع الريح بروحها الطيبة، ولم أتمكّن من وداعها. أنا أعلم أنّ ربها شاء لها مكانًا أفضل من المكان التي كانت فيه. وأعلم أيضًا أن أمي جمال وأخي فادي وخالي فؤاد وزوجها ميشال وجدي الياس وجدتي ليندا اشتاقوا إليها. هل يلتقي الراحلون في ملكوت المحبّة؟ السؤال ولم لا يتلقون؟ هل أوجدنا ربنا ليقصينا عن بعضنا في الموت؟
في قراءة استدخلتها إلى ذاتي بعد رحيل أخي فادي، أظهرت فيها بعد طول معاناتي، بأن الله لو شاء إنهاء البشريّة لما أوجدها في الأصل. لو افترضنا بأنّ الإنسان ينتهي في الموت، بحال عدم وجود القيامة، فأين سرّ أزليّة الله، وكيف يدوم بها أو تدوم به في التاريخ؟ وإذا افترضنا بأن التاريخ يموت بالصراعات أفلا يتمزّق الله وينفجر ويموت؟ سرّ الله لا يكمن في بشريتنا وتاريخيّتنا فقط، بل في نقله لنا إلى حياة أبديّة بعدما كانت فينا بفعل التجسد، نتلاقى فيها جميعنا كقامات من نور، على شبه المسيح القائم من بين الأموات وقد دخل المكان الذي كان تلاميذه مجتمعين فيه والأبواب مغلقة. إنّه النور المخترق للحجب للأزمنة، ونحن معه وبه نخترق ونعلو ونتلاقى... أزعم من هذه الزاوية بأن كلير ستلتقي بمن رحلوا إلى فوق ويكون لهم فرح عظيم.
كلير صليبي شعيب، ربّت مع زوجها ميشال سيّدات يخترقن القلب والعقل، وهن بدورهن أسّسن مع أزواجهن عائلات مباركة نحبّها من قلوبنا. لا أنسى ماري وكيتا ولينا. كنّ مدى لذلك الزمن، والمحبة، ومهما الأيام طالت أو قصرت، تبقى على متانتها وقوّتها وبهائها.
ألا ارتفعي يا كلير من الزمن إلى اللازمن. وجعي كما قلت أنني لم أستطع وداعك، لعن الله تلك الظروف، التي فيها نودّع أحباءنا بلا مراسم وهذا معيب ليس بحقّهم بل يحقّ كرامة الله، ولكنّك تبقين عنوانًا للرضى الكبير والسلام على جميع آلك وأحبائك.
سلمي على والدتي وأخي الحبيبين، هلاّ سجدتما أمام عرش الله معًا وتوسلتم إليه لينهي تلك الجائحة الرهيبة في زماننا وإلى غير رجعة؟ هلاّ توسلتم إليه لينهي تلك الضائقة الجارحة لكرامة الإنسان وكرامة الجالس على العرش فيه؟ لا تنسونا فوق، وليكن الرب راحمًا لكم ومعزّيًا لنا في بهاء المحبة، وأنوارها الغالبة.
رحمك الله وإلى اللقاء دامًا مع المسيح الغالب.