ذكرت وكالة الأنباء اللبنانية أنّ عددًا من المواطنين في منطقة المنية، شمال البلاد، أضرموا النار في مخيم للّاجئين بعد شجار اندلع بين أحد أفراد عائلتهم وعمال سوريين. وطال الحريق كل المساكن المبنية من مواد خشبية وبلاستيكية داخل المخيم الذي يضمّ حوال 75 أسرة سورية.
بدأت رحلة معاناة الشعب السوري منذ اندلاع ثورته عام 2011، وهروبه من الحرب الإقليمية على أرضه، إلى العديد من الدول المجاورة، وكان للبنان النصيب الأكبر منها. أعداد النازحين إلى لبنان نسبة إلى عدد السكان، تعتبر النسبة الأعلى في العالم. هذه النسبة مريعة لبلد يعاني شعبه أصلًا الفقر والتردّي في الوضع الإقتصادي، إلى جانب وجود طبقة حاكمة هدرت المال العام، ليصل دينه العام إلى أكثر من مئة مليار دولار.
معاناة النازح قابلتها معاناة الشعب اللبناني، وصراعاته وانقساماته، وماضيه السيّئ مع النظام السوري الذي حكم لبنان منذ اتفاق الطائف، إلى حين اغتيال رفيق الحريري رئيس الحكومة اللبنانية. المعاناة لم تتوقف، وقد تزداد سوءًا في الأيام القادمة، سيما وإنّ الحكومة بدأت تمهّد لقرارات إقتصادية أليمة، وهي رفع الدعم عن المواد الأساسية، بسبب حجة حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، بنفاذ احتياطي المصرف من العملات الصعبة؛ وبدأت البوادر تظهر في مادة البنزين، حيث يُتوقع أن يرتفع سعر الصفيحة بعد الأعياد إلى 35 ألف ليرة لبنانية أو أكثر.
رفع الدعم هذا، سيزيد سوءًا حالة اللبناني والنازح معًا، كما سيزيد التشنّج أكثر بينهما، وقد يشهد لبنان ثورات شعبية، وربما صدامات. أضف إلى ذلك، هناك ظروف الحياة غير الصحية في الخيم، وانتشار وباء فيروس كورونا مع عجز الدولة اللبنانية على استيعاب نسب الزيادة في الإصابات، ما سيضع النازح ضحية هذا الوباء.
معاناة اللبناني مع النازح، قديمة قدم النكبة الفلسطينية عام 1948، حيث شهد لبنان يومها موجات نزوح للشعب الفلسطيني بعد أن هُجّر من وطنه، وحلّ نازحًا في لبنان. دخل اللبناني مع الفلسطيني حرب المخيمات عام 1973، تلتها حرب كانت الشرارة الأولى لاندلاع الحرب الأهلية، عام 1975، المعروفة بحادثة "بوسطة عين الرمانة". وعلى الرغم من مرور أكثر من سبعين عامًا على وجود الفلسطيني في لبنان، إلّا أنه لا يزال منكوبًا في مخيمات تفتقر لأبسط مقومات الحياة. بالمقابل، لا قدرة للدولة اللبنانية المهترئة على احتضانه، أو توطينه، لذا فهو اليوم يشكل قنبلة ديمغرافية قد تنفجر في أي وقت.
فهل يكون شبح التوطين هو الحلّ مع النازح الفلسطيني؟ وماذا عن النازح السوري؟ فهل سيعيد التاريخ نفسه في لبنان، ولكن هذه المرة بحرق مخيم المنية للسوريين أو غيره من المخيمات لاحقًا؟ وماذا عن التدخلات السياسية في عملية النزوح بغية إبقاء النازحين في لبنان، وإعادة التوزيع الديمغرافي لسكان المنطقة من جديد؟
أزمة السوري في لبنان لا تتوقف عند المعاناة الإنسانية فقط. الفلسطيني في لبنان مثال واضح للّعبة الديمغرافية التي كانت سبب تهجيره. فحركة الهجرات الكثيرة ليهود الشتات في العالم، قابلتها حركة التهجير القسري للشعب الفلسطيني عن أرضه لا سيما بعد حربيّ النكبة والنكسة. كيف لا، وفي لعبة الأمم، كي تربح المعركة عليك بالتغيير الديمغرافي؛ وهذا هو واقع سوريا اليوم. اذًا، هل قرار العودة هو فعلًا بِيَد النظام؟ أم أنّ اللاعبين الإقليميين على الأرض السورية رسموا حدود سوريا الجديدة، واللاعودة؟
لا أحد يتنكّر اليوم لأدوار الإيراني والروسي والتركي تحديدًا على الجغرافيا السورية، كما ونلاحظ أنّ حركة "ترانسفير" للشعب السوري، بدأت ما قبل الثورة السورية. فبحسب دراسات سورية، شكّل الدور الإيراني في سورية نقطة محورية، عبر تصدير الشيعية السياسية، مع تصديرها للثروة الإيرانية إلى الدول العربية. فلم يعد خافيًا على أحد مناطق النفوذ الخاضعة لإيران مباشرة، أو لحلفائها في سوريا، أو حتى ما بات يُعرف بالفيلق الرابع بقيادة ماهر الأسد، وولائه لإيران في الحرب الدائرة. هذا ما يتعارض مع النفوذ الروسي، الداعم للفيلق الخامس، من الجيش السوري، والذي له أيضًا نفوذ وقواعد عسكرية في أكثر من منطقة. الأمر الذي يوضح ضعف النظام في قرار العودة؛ حتى وإن عادوا فإلي أين؟
وهناك أيضًا الشمال السوري، ذو الغالبية السنية الموالية لتركيا، بحيث لا يتوانى التركي عن فرض شريطه العازل داخل العمق السوري وصولًا إلى طريق "M4" الدولية، التي يصرّ اللاعب التركي في سوريا على الإشراف عليها لما لها من أهمية استراتيجية في عمق المحافظات الواقعة تحت سيطرته. أمّا قوات سوريا الديمقراطية "قسد" ذات الغالبية الكردية، والمدعومة أميركيًا، فهي أيضًا تسيطر على شرق وشمال سوريا.
إذًا، سوريا اليوم، لا تزال تعيش على فوهة بركان، فقرار الرئيس الخاسر في الإنتخابات الأميركية، دونالد ترامب، إعادة تموضع جنود بلاده في المنطقة، دفع الأطراف الأخرى لملء الفراغ، وتحديدًا في سوريا، الدولة المركزية في الشرق. لذا، فالجميع بما فيهم الحكومة اللبنانية، ينتظر السياسة الأميركية الجديدة، مع الرئيس المنتخب جو بايدن، والذي بحسب تصاريحه، سيعود إلى المنطقة من البوابة السورية.
إلى حين اتّضاح الصورة، ستبقى معاناة النازح السوري في لبنان، لا بل ربّما تشهد تصعيدًا دراماتيكيًا، نتيجة الأزمات المتلاحقة في البلد. وعلى ما يبدو فالإدارة الأميركية الجديدة، لن تكون أرحم من الإدارة السابقة. كما وإنّ إيران وحلفائها في المنطقة، لا سيما حزب الله، لن يسلموا ما حققوه من نفوذ وانتشار على مدى سنوات، والتهديدات في العراق لرئيس الوزراء الكاظمي على يد إحدى الفصائل الموالية لإيران واضحة في هذا الخصوص. وهذا ما قد يُدخل المنطقة في حرب إقليمية، لن ترحم النازح ولا اللبناني على حدّ السواء.