كم أنّ الإدارة الأميركيّة تافهة وبذيئة. تدمن على عقوبات ظنّ أربابها أنها سترعب المعاقَبين ومن هم إليهم، فإذ بهم ازدادوا ويزدادون صلابة ومتانة وقوّة، وإذ بمؤيديهم يزدادون صلابة معهم ويتحلّقون حولهم غير آبهين بالعربدات ولا خائفين من فجور فاغر.
هذه الإدارة وهي على مشارف غياب نمطيّ ليليها نمط آخر، من دون إلغاء للثوابت الأميركيّة المعتادة، تتعمّد على ما يبدو إظهار مخالبها وإبراز أنيابها لإخافة الوجوه السياديّة الحاضنة والحافظة للبنان. لقد اعتاد بعضهم في السياق اللبنانيّ على أن يظهر الخطّ السياديّ عند فريق طالب بخروج سوريا وتجسيد القرار 1559 سنة 2005، أو يتجلّى بمنطق الحياد عند السيد البطريرك الراعي، الذي لم يمارسه حين وجّهت الاتهامات لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وهو يستغلّ التأزّم السياسيّ لرفع سعر صرف الدولار، بل مارسه في لحظة الاعتداء الأميركيّ على جبران باسيل وهو ابنه الروحيّ، من دون حدّ أدنى من الاعتراض يبديه بصوت خجول.
لكنّ الخطّ السياديّ قائم في المواجهة مع أنظومة فاتكة، ينسى سياديّو ذلك الزمن، أنّ هذه الأنظومة هي من أدخلت سوريا إلى لبنان في مسافات التسوية معها ومع السعوديّة على حساب لبنان. كانوا يصوّبون على سوريا، ويتناسون أنّ المواجهة الفعليّة ليست مع سوريا ولا حتى مع السعوديّة بل مع أميركا بالذات، الراعية للتسويات والمفجّرة للحروب على حساب شعب وكيان. لقد كشفنا في مقالين سابقين على هذا الموقع الكريم كم أنّها اعتبرت لبنان خطيئة تاريخيّة وكيان عبور. هذا الاعتبار يشي بالقصد ويؤكّد معاني الفتك المرسومة على صفحات مؤامراتهم وفي جوف أدبياتهم.
انطلقوا بالعقوبات من يوسف فنيانوس وعلي خليل، لتظهر الذروة مع جبران باسيل كرئيس للتيار الوطنيّ الحرّ، لنفاجأ اليوم بأنّها تفكّر بوضعها على لواء يمثّل الرقيّ بانفتاحه على الشرق والغرب وصلب في تحديد انتمائه للبنان والمشرق، ويكشف برؤاه أنّه قيمة مضيئة تستحقّ الثناء والتمييز.
عبّاس إبراهيم، ليس شخصيّة أمنية تستهويها الكهوف، إنه شخصيّة تستمدّ رسوخها من صلابة الصخر وشموخ الجبل وسماح الأنبياء والمحبّة المجانيّة. استثنائيّة عباس إبراهيم هي المعنى المتجلّي منه. بل المتجلّي من عمل العقل الممدود على معظم الثقافات والحضارات بقراءات عميقة، استطاع استنباط القوالب السياسيّة المؤلّفة منها والتوجهات الاقتصاديّة المولودة من رحمها، واستخاج المألفات الأمنيّة بحركتها الفعليّة على الأرض ولصوقها بالأنماط السياسيّ-الاقتصاديّة.
كوّن الرجل فكره ورؤيته وعمله من الاستنباط والاستقراء ومن ثم الاستشراف. سهر وجاهد لكي يجيء الفكر متآلفًا مع الذاتيات، فانفتح عليها وذاق الفرادات في رؤاها وتعامل معها باحترام كبير ووثيق. أهمّ عنصر عند اللواء إبراهيم تواضعه الجمّ ةعدم تكلّفه في التواصل، وأرقى ما عنده احترامه لذاته ومبادئه ورفضه أسلوب المساومات أو الملاطفات الفارغة، وأقوى ما في ذاته وتوجّهاته رفضه للإغراءات وتحرّره منها وفرحه بنقاوة الضمير ونظافة الكفّ.
ما الذي يريده الأميركيون منه حتى يفكّروا بوضعه على لائحة العقوبات، ومنذ أسبوعين ونيّف كرّموه باحتفال رأيناه تكريمًا للبنان كلّ لبنان، لأننا اعتقدنا ولا نزال بشدّة نعتقد بأنّه لا يحوي خطيئة التمييز بين مسيحيّ ومسلم، ولا يفرض شيئًا من ذاته، بل يحيا في بِرّ القانون في بَرّ متعثّر ومحفّر. وظيفة الرجل الأمنيّ بالدرجة الأولى قول القانون. إنّه وجه الحقّ المكوِّن للشريعة. ووظيفته كأمن عام حماية السيادة اللبنانيّة من على الحدود البريّة والبحريّة والجويّة، ومنع الخلل فيها وعليها.
أهميّة عبّاس إبراهيم، أنّه لم يلتصق بالحدود الكلاسيكيّة للأمن. وفي الوقت عينه عينه لم يستخدم الأمن لفرض رؤى سياسيّة، وقد درج ذلك في بعض الأنظمة والأمكنة، بل استخدم المفاهيم السياسيّة المعبّرة عن ذاتية الدولة وفرادتها لتوجيه الأمن وتبويبه وليكون ناطقًا ومعبّرًا عن تلك الذاتية في الداخل والخارج. وهذا ما يجعل الصيغة الأمنية حيّة ومتحرّكة ومعبرة عن السيادة ناظمة لها. فالأمن لا يمكن بمفهوم اللواء إبراهيم أن يكون منفصلاَ عن السياسة، ولا يمكن في الوقت عينه أن يكون كيانًا متفرّدًا، أي أن يكون كيانًا فوق الكيان الطبيعيّ الذي نحيا في كنفه ونعيش على أرضه، والأمن فيه ضابط وناظم. وهذا عينًا مصدر إخلاصه ونجاحه.
بالإضافة إلى كلّ ما بيّناه فإنّ الرجل متدرّب على مناهج التحليل القائمة على الاستشراف والاستقراء والاستباط. العقل والفكر يجتمعان إلى امتداد الحدس في المنطق العقليّ الذي يسمح له باجراء قراءات استباقيّة باستخراج مجموعة الاحتمالات المطلّة فيبني عليها تحليله ويستجمعه في التقييم الداخليّ وفي التوجيه الذي يستوجبه أو يستوحيه ثم يحيط به المسؤولين في الدولة اللبنانيّة قبل أخذ القرار المطلوب لبناء المقتضى عليه. وهذا حتمًا يتجلّى بإخلاص كامل. وهذا ما جعل فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون مع سائر المسؤولين يثقون به ثقة كاملة، وهذا ما يجعله، وبهدوء، يغوص في تفاصيل دقيقة مؤثّرة على مجريات الأحداث في لبنان والمشرق العربيّ. هدوءه جعله يتغلّب على هيمنة العنف في سوريا ولبنان، كمثل ما شاهدناه في حراكه الصادق حين ساهم بقوّة في تحرير راهبات معلولا أو مخطوفي إعزاز وحاول بإخلاصه العظيم إنهاء قضيّة المطرانين بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم المجهوليّ المصير. وفي لبنان عمل بصورة مباشرة على تدوير الزوايا بين جميع الأفرقاء السياسيين المختصمين والمتخالفين لا سيّما في قضيّة تأليف الحكومة... وعلى الرغم من شدّة العقد، لم ينفذ صبره لأنه دومًا يرجو.
بهذا المعنى نحن أمام شخصيّة تواصليّة بعقلانيّة مجرّدة. لا تعني تواصليّة عباس إبراهيم أنّه ضبابيّ ولا رماديّ. ثمّة إشكاليّة ظاهرة عند بعضهم بفهمهم لتلك المدرسة، وبظنّ كبير، أن أربابها خالون من انتماء. السؤال المطروح على الفكر البشريّ، وهل المحتدمون فكريَّا وسياسيًّا يعيشون حالة انتماء. قد يعبر الاحتدام عن عشّ أو خيانة أو تلاش، وقد تعبّر العقلانيّة والموضوعيّة عن فحوى الانتماء بلغة هادئة ومقاربات مدروسة ونقديّة وأحيانًا نقديّة ذاتية لمبدأ الانتماء. أهميّة اللواء عباس أنه يحيا في برارة الانتماء القويم لمشرقيّة رحبة ولبنانيّة صلبة، وقد قدّم ذاته بها باماله وبهدوء متّزن وران وصلب. لا ينفي الرجل الداخليّ انتماءه إلى خطّ لم يسلب الذات اللبنانيّة، ولم يقتنص وجودنا. إنه قلب عهد غير منفصل عن عقله، وهو مقيم في بهاء التمازج المستمرّ وجديّته. الأدبيات الشيعيّة متقاربة مع الأدبيات الأرثوذكسيّة إذا ساغت القراءة في الحركة التواصلية بين القلب والعقل، وفي وحدانية مواجِهة للمخاطر جنّد اللواء فكره للتصدي لها بقوّة، ولا ينفي صداقته وقرباه من حزب مقاوم، حيث يعمل على التنسيق في مدى المواجهة التي يعيشها لبنان على المستويات كافّة.
لقد جنّت الإدارة الأميركيّة بالكامل، وجن بعض رجال الكونغرس الأميركيّ، في الإشارة إلى إمكانية استهداف اللواء عباس إبراهيم ضمن لحظة انتخابيّة.
السؤال الذي يطرح نفسه، ما دخل أميركا في فرض العقوبات على لبنان أو إيران أو فنزويلاّ أو سوريا، من نصّبها لتكون قاضية على الشعوب والدول وحاكمة لها، ومن سمح لها بأن تضع هذا أو ذاك على لائحة عقوباتها السوداء؟ ماذا يعني أن يستهدفوا جبران باسيل ويحضّروا لاستهداف عباس إبراهيم، وما دخلهم بصداقة الناس بين بعضها أو الأحزاب فيما بينها في لبنان؟
نفهم أن أميركا تحارب لبنان اقتصاديًّا وماليًّا، وهي في الأصل من زرعت الطبقة الفاسدة في لبنان، ونفهم أنها تحارب سوريا والعراق اقتصاديًّا وماليًّا، وتدنينا إلى الاستعباد بنظام كونيّ كليّ الاستبداد. ولكنّ الأعمق من الحرب انتهاك أميركا لسيادة لبنان قانونيًّا، Occupation juridique، ولا تستند أميركا في شيء على عقوباتها سواءً على جبران والمحتملة على عباس إبراهيم. لقد ظهرت السفيرة الأميركيّة مضحكة وسخيفة في قولها "عندنا الأدلّة ولكننا لن ننشرها"، عن أية أدلّة تشير تلك السفيرة السخيفة، والتي كان بفترض من الدولة عدم دفع محمد مازح للاستقالة بسبب قراره بوجهها. فلماذا لا يتمّ استدعاء السفيرة الأميركيّة من بعد ردّها جبران وتذكيرها باتفاقيتيّ فيينا وجنيف، ولماذا لا تقدّم الحكومة اللبنانيّة شكوى إلى الأمم المتحدة تحت ستار أن أميركا تتدخّل بما لا يعنيها وتفرض عقوبات على شخصيات لبنان من دون وجه حقّ، ولماذا أيضًا لا تستدعي الحكومة اللبنانيّة السفيرة وتوبّخها؟
أميركا ليست دولة عظمى بل فاسقة وتافهة، وعقوباتها كرذاذ يتجمع في الجو ثمّ يتبخّر وكالهباء الذي تذريه الريح عن وجه الأرض. جبران باسيل، حزب الله، عباس إبراهيم ضخور متكئة على مجد لبنان، وميزة الصخور انها رحم للينابيع المتدفقّة، فكيف إذا كانت ينابيع من ضياء؟