أظھرت وقائع الأسبوع الأول من المفاوضات الحكومیة الجاریة بین الرئیس المكلف سعد الحریري ورئیس الجمھوریة میشال عون وسط تكتم شدید، أنھا لم تُنجز لغایة الآن "إتفاق الإطار" وعملیة ترسیم حدود التوازنات والأحجام... فوزارة المال لیست لوحدھا المشكلة، وھذه المشكلة ُحلّت بتكریس ھذه الوزارة للطائفة الشیعیة وإخراجھا من البحث ومن نطاق المداورة بین الحقائب. والآن تبرز مشكلة وزارة الداخلیة التي یُطرح أمر "مداورتھا" ومقایضتھا كما أن العقدة المسیحیة التي طُرحت بدیلا عن "العقدة بوزارة الخارجیة وسط إعتراضات وتحفظات "سنیّة الشیعیة" (وتمثلت في طبیعة وحجم تمثیل التیار الوطني الحر وما ستؤول إلیه وزارة الطاقة، وما إذا كان الوضع بینباسیل والحریري سیبقى في إطار مفاوضات غیر مباشرة عبر رئاسة الجمھوریة) تنافسھا حالیا عقدة درزیة بسبب إصرار جنبلاط على حصر التمثیل الدرزي به، بعدما تناھى إلیه أن الرئیس عون أعطى طلال إرسلان وعدا بأن تكون وزارة الإعلام له، وفي وقت لا یبدو جنبلاط راضیا عن الحریري الذي لا "یقاتل" من أجله، حتى لو تطلب الأمر فرض حكومة الـ١٨ بدل الـ٢٠ .ویبدو أن حزب الله لم یقل كلمته بعد، وھو في انتظار إنتھاء "المفاوضات التقنیة" بین الحریري وعون وحل العقدتین المسیحیة والدرزیة، كي یباشر مفاوضاته السیاسیة مع الحریري، والتي تتناول، بعدماتم حسم وتجاوز الحصة الشیعیة في الحكومة، برنامج الحكومة وسیاستھا، وخصوصا لجھة شروط التفاوض والإتفاق مع صندوق النقد الدولي.
الأجواء الإيجابية التي أشیعت في الأسبوع الأول للتألیف لا تلغي واقع أن المفاوضات الحكومیة لا تزال تراوح مكانھا، و أن
"شيطان التفاصيل" یُحسب له حساب، بدءا من موضوع المداورة التي ورغم إستثناء وزارة المال ، على مستوى الوزارات الأساسیة الحیویة یطرح إشكالیة وخلافات. فھذه المداورة تُطرح على مستویین: المسماة وزارة خدمات (مثل الطاقة والإتصالات والأشغال والصحة والتربیة والشؤون الإجتماعیة...)، ومستوى الوزارات السیادیة المحددة بأربع: الداخلیة والخارجیة والدفاع والمالیة...
ولما كانت وزارة المالیة ُحجزت للثنائي الشیعي، ووزارة الدفاع باقیة في ید رئیس الجمھوریة، فإن المداورة "السیادیة" باتت محصورة بین الداخلیة والخارجیة، فتخرج الداخلیة من الحصة السنیّة والخارجیة من الحصة المارونیة، ویجري تبادل المركزین بین عون والحریري... وفي الواقع، فإن موضوع وزارة الداخلیة طُرح لأول مرة في بدایة عھد الرئیس عون بعدما فاتح باسیل الحریري إثر انتخاب عون رئیسا للجمھوریة بالمداورة ورغبة "فخامة الرئیس" بأن تكون الداخلیة من حصته. وطرح باسیل یومھا معادلة "وزارتا الداخلیة والدفاع كانتا من حصة الرئیس میشال سلیمان، فكیف یمكن حجب أي منھما عن الرئیس القوي؟!". والیوم یطرح باسیل معادلة إنتقال وزارة الخارجیة الى الحریري وخروج وزارة الطاقة من حصة التیار الوطني الحر، وھي بمثابة الحقیبة السیادیة الخامسة مقابل خروج وزارة الداخلیة من ید الحریري وتیار المستقبل.
إذا وافق الحریري على "التنازل الثاني" عن وزارة الداخلیة
في التخل (التنازل الأول في وزارة المالیة)، یكون قد طوى صفحة ست سنوات إبتداء من العام ٢٠١٤ وكانت فیھا وزارة الداخلیة في الملعب السنّي (نھاد المشنوق وریا الحسن ومحمد فھمي) بعدما استقرت من العام ١٩٩٢ حتى العام ٢٠١١ في الملعب المسیحي (مع خرق وحید تمثل بتعیین حسن السبع وزیرا للداخلیة عام ٢٠٠٥ ...(ولكن ظھرت في الأفق علامات إعتراض في الطائفة السنیّة ورفض التخلي عن حقیبة الداخلیة التي تمثل بالنسبة للسنّة من قیمة سیاسیة ومعنویة و"میثاقیة"، ما تمثله وزارة المال بالنسبة الى الشیعة... ولعل النائب نھاد المشنوق ھو أول من یُخرج الموقف السنّي الإعتراضي الى العلن عندما تساءل(في مقابلة تلفزیونیة مساء أمس): بأي منطق یحصل رئیس الجمھوریة في الحكومة على الأمن والقضاء؟! ولماذا المداورة بین حقیبتي الداخلیة والخارجیة؟! معتبرا أن ھناك شغورا في رئاسة الحكومة إما بالإعتداء على صلاحیاتھا أوعلى دورھا...
ویبدو أن الإعتراض السنّي على تنازل الحریري عن وزارة الداخلیة یتصل بجملة أسباب واعتبارات أبرزھا:
- أھمیة وزارة الداخلیة، لیس فقط في دورھا وأجھزتھا الأمنیة (الأمن الداخلي والأمن العام)، وإنما أیضا صلاحیاتھا الواسعة كوزارة وصایة على البلدیات، وتتبع لھا دوائر ومصالح حساسة مثل الصندوق البلدي وشؤون اللاجئین والجمعیات والأحوال الشخصیة.
- تُطرح وزارة الداخلیة من ضمن حصة رئیس الجمھوریة، ولكن أیضا من ضمن نفوذ إضافي یُعطى للتیار الوطني الحر في الدولة وعلى أرض السلطة، وعلى مسافة قصیرة من الانتخابات النیابیة التي لوزارة الداخلیة صلاحیة الإشراف علیھا.
- إنتقال حقیبة الداخلیة الى "الضفة العونیة" یطرح العلاقة الملتبسة والحساسیة المزمنة بین باسیل ومدیر عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان والملفات العالقة بین الطرفین، وعلى رأسھا التشكیلات في المراكز الأمنیة، وحیث بكّر باسیل في طرح شعار تأمین التوازن الطائفي والمیثاقیة واستعادة حقوق المسیحیین في ھذه المدیریة.
ھذه الإعتراضات التي بدأت تُطل برأسھا لا یعیرھا الحریري أھمیة زائدة خصوصا وأن له وجھة نظر أخرى تقول إن
مدیریة قوى الأمن الداخلي وشعبة المعلومات أھم من وزیر الداخلیة، مثلما قیادة الجیش والمخابرات أھم من وزیر الدفاع، وأن وزارة الداخلیة عبء في ھذه المرحلة وھي على تماس مباشر مع الشارع الذي ما زال "جمرا تحت الرماد"، فیما وزارة الخارجیة تضعه على تماس مع المجتمع الدولي والعربي، وحیث الحاجة الى إعادة بناء العلاقات والثقة واستجلاب المساعدات... ولكن "الداخلیة" یمكن أن تتحول الى مشكلة فعلیة وتدفع إما الى صرف النظر عن المداورة في الوزارات السیادیة الأربع، أو الى التوافق على "مداورة طائفیة" في وزارتي الخارجیة والداخلیة من دون تسمیة الحریري، ویكون وزیر الخارجیة سنیّا"مداورة سیاسیة"، بمعنى أن یكون وزیر الداخلیة مسیحیا (أرثوذكسیا) ويسميه رئیس الجمھوریة.