“الحريري يعتدل ويستعجل التأليف… والكتـــل تحدّد تصوّرها اليوم”.
نجح الرئيس المكلف سعد الحريري في خوض معركة تكليفه متجاوزاً المطبّات التي وضعت في طريقه وخرج بـ65 صوتاً (الاكثرية النيابية المطلقة)، ولكن هل انّ نجاحه في معركة التكليف سينسحب على التأليف الذي تختلف حساباته فيه عن حسابات التكليف لجهة التوازنات داخل الحكومة والأحجام والحقائب وغيرها الكثير؟ أما الإيجابيات التي ظهرت من خلال المواقف التي أطلقها أكثر من مرجع ومسؤول، فهي طبيعية في مفاصل من هذا النوع، ولكنها لا تتعدى النيّات التي تصطدم بالوقائع المعقدة على الأرض.
وأن يبدأ الرئيس المكلّف استشاراته النيابية اليوم في مؤشّر إلى رغبته في تسريع تأليف الحكومة، فهذا لا يعني انّ التأليف سيتحقق سريعاً إلّا في حال تم التوافق والاتفاق على شكل الحكومة التي ما زالت مدار خلاف بين من يريدها تكنوسياسية، وبين من يريدها من اختصاصيين غير حزبيين، وقبل حسم هذا الخلاف لا يمكن الانتقال إلى الطبقة الثانية المتصلة بالأحجام داخل هذه الحكومة والحقائب، هذه الطبقة بالذات التي كان يدور كل الخلاف حولها قبل مرحلة 17 تشرين، ويستغرق تأليف الحكومات أشهراً. فيما نقلت وكالة «رويترز» عن ديبلوماسي أميركي كبير قوله: «يجب أن تلتزم حكومة لبنان الجديدة بالإصلاح وإنهاء الفساد».
وستؤكد الكتل النيابية اليوم للحريري رؤيتها لطبيعة الحكومة العتيدة، وتتجه الأنظار في هذا الصدد إلى تكتلي «لبنان القوي» و»الوفاء للمقاومة»، خصوصاً انّ الثنائي الشيعي يتمسّك بتسمية الوزراء وحقيبة وزارة المال، فيما لا يعتبر «التيار الوطني الحر» الرئيس المكلف اختصاصياً، بل يعتبره سياسياً بامتياز، ما يعني أنه سيبدأ البحث معه من توزير سياسيين قبل ان ينتهي بعد أسابيع أو أشهر إلى توزير اختصاصيين على غرار الحكومة المستقيلة ولكن اختيارهم تتولّاه الكتل النيابية لا الرئيس المكلف.
فإذا سلّم الحريري بهذه القاعدة تتشكّل الحكومة ويصبح الخلاف حول التفاصيل المتصلة بالتوازنات، وإذا لم يسلِّم فلن تتشكّل وقد يضطر إلى الاعتذار، لأن لا «الحزب» ولا «التيار» في وارد الموافقة على حكومة لا يُمسكان بمفاصلها، وكلام الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله كان شديد الوضوح في إطلالته التي رَدّ فيها على اتهامات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للحزب بأنه ليس في وارد القبول بتغيير قواعد التأليف الحكومي المتّفق عليها منذ العام 2005.
ومع انتهاء جولة الاستشارات النيابية غير الملزمة بنتائجها، يبدأ البحث الجدي في التأليف الذي سينتظر بطبيعة الحال نتائج الانتخابات الأميركية التي صارت على الأبواب، لأنّ أحداً ليس في وارد الإقدام على اي خطوة قبل معرفة الاتجاهات التي ستسلكها المنطقة.
ولكن مصادر مطلعة قالت لـ«الجمهورية» انّ أجواء إيجابية ومَرنة سترافق عملية التأليف استناداً الى أجواء اللقاءات والاتصالات التي جرت في الايام الأخيرة بين رئيس مجلس النواب نبيه بري والحريري، الذي أبدى الاستعداد للتفاهم مع الجميع في شأن التشكيلة الوزارية وتسمية الوزراء.
وفي قراءة ليلية لنتائج اليوم الطويل من الاستشارات النيابية الملزمة، قالت مصادر مقرّبة من بعبدا لـ«الجمهورية» انّ ما شهده اللقاء الثلاثي الذي أعقب انتهاء الاستشارات النيابية في قصر بعبدا، والذي ضَم رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب والحكومة، عكس جواً ايجابياً يمكن ان يكون قد بَدا بعدما تمّ تجاوز الكثير من العقد السابقة.
وقالت هذه المصادر انّ الخطوات الدستورية التي من المفترض ان تبدأ من اليوم، ستشكّل مناسبة لإطلاق مسار جديد في عملية التأليف، وسيشكّل اللقاء الذي سيجمع الحريري مع وفد كتلة «لبنان القوي» برئاسة النائب جبران باسيل محطة تُعيد وَصل ما انقطَع في الفترة الأخيرة بين مكونات الحكومة الجديدة، خصوصاً انّ ما طَرحه بري في اللقاء الثلاثي ووافَقه عون والحريري عليه قد يقود الى فتح صفحة جديدة لا بد منها.
وعلمت «الجمهورية» انّ الحريري عَبّر لرئيس الجمهورية عن نيته التعاون في المرحلة المقبلة، لأنّ ذلك سيكون واجباً على الحكومة من اجل تجاوز الازمة الصعبة والتأسيس لمرحلة الإنقاذ المطلوبة وفق المبادرة الفرنسية والأجواء الدولية الداعمة. وأبلغ الحريري الى عون انّ لديه تصوراً للحكومة المقبلة، وهي ستكون من 20 وزيراً من الاختصاصيين غير الحزبيين توحي بالثقة لدى الداخل والخارج من اجل استعادة الدورة الاقتصادية حركتها الطبيعية.
وقالت المصادر انّ البحث تناول مرحلة التنسيق للاسراع في توليد التشكيلة الحكومية، فالمرحلة المقبلة ستقود الى التفاهم على الحقائب وتسمية الوزراء ولا سيما منهم المسيحيين، إن كان التفاهم على تسمية الوزراء الشيعة مع ثنائي حركة «أمل» و«حزب الله» هو المتوقّع.
وفي هذه الأجواء، كشفت مراجع مطّلعة لـ«الجمهورية» انّ عون شَدّد في الاستشارات النيابية على أهمية ان تتولى الحكومة برامج الاصلاحات المحكي عنها، ولا سيما منها التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان كمدخل طبيعي لوصول هذا التدقيق الى مختلف الوزارات والمؤسسات الرسمية ومكافحة الفساد.
وفي ساعة متأخرة من ليل أمس عكست مصادر واسعة الاطلاع في بيت الوسط لـ»الجمهورية» أجواء بعبدا الإيجابية باللغة والمنطق عينه، وتحدثت عن أنّ ما شهده اللقاء الثلاثي بعد انتهاء الاستشارات كَسرَ الجليد الذي كان قائماً بين عون والحريري على رغم من مجموعة الانتقادات القاسية التي وَجّهها رئيس الجمهورية الى الحريري في رسالته غير التقليدية عشيّة الاستشارات، حيث أكد الحريري انه تجاوَزها الى درجة وكأنها لم تكن في اللقاء.
وقالت هذه المصادر انّ الترجمة العملية للاجواء الإيجابية التي أنتجها لقاء بعبدا ستظهر اليوم بتَرؤس باسيل وفد تكتل لبنان القوي الى استشارات التأليف غير الملزمة التي سيجريها الحريري بعد ظهر اليوم في مجلس النواب، وذلك بعدما كان قد عَبّر عن النية بعدم مشاركته فيها إلّا بوفد مصَغّر من التكتل.
وانتهت المصادر الى التأكيد انّ لقاء اليوم سيشكّل مناسبة للتفاهم على موعد لاجتماع يعقد بين الحريري وباسيل بعد الانتهاء من هذه الاستشارات، بما يفتح أبواب التفاهمات حول التركيبة الحكومية الجديدة.
وقد عكسَ الحريري هذه الاجواء في دردشة مع الصحافيين في «بيت الوسط»، عندما سألوه عن الايجابية التي عَبّر عنها إثر تكليفه، فقال: «إنها البداية، واذا كانت مصلحة البلد تتطلّب تفاهماً مع الجميع فمن المفترض تغليب مصلحة البلد».
وعن إمكانية لقائه مع رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل خلال الاستشارات اليوم، لم يغلق الباب علماً أنه لم يجب عن السؤال.
وكان بري قد قال لدى مغادرته القصر الجمهوري امس انّ «الجَو تفاؤلي بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس سعد الحريري». واضاف: «سيكون هناك تقارب بين تيارَي «المستقبل» و»التيار الوطني الحر».
واكد الحريري، في البيان الذي تلاه بعد تكليفه تشكيل حكومته الرابعة منذ العام 2009، عزمه على تأليف «حكومة اختصاصيين من غير الحزبيين، مهمتها تطبيق الاصلاحات الاقتصادية والمالية والادارية الواردة في ورقة المبادرة الفرنسية، التي التزمت الكتل الرئيسية في البرلمان بدعم الحكومة لتطبيقها». وتوجّه الى اللبنانيين مؤكداً أنه «عازم على التزام وعدي المقطوع لهم، بالعمل على وقف الانهيار الذي يتهدّد اقتصادنا ومجتمعنا وأمننا، وعلى إعادة إعمار ما دمّره انفجار المرفأ الرهيب في بيروت، وانني سأنكَبّ بداية على تشكيل الحكومة بسرعة، لأنّ الوقت داهم، والفرصة امام بلدنا الحبيب هي الوحيدة والاخيرة».
ولأسباب أمنية استعاضَ الحريري عن الزيارات التقليدية لرؤساء الحكومة السابقين بالاتصال هاتفياً بهم، وأفاد المكتب الاعلامي للحريري انّ هؤلاء «تمنّوا له التوفيق في مهامه لتشكيل حكومة لوقف الانهيار وإعادة إعمار ما دمّره انفجار مرفأ بيروت».
وهنّأ مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان الحريري بتكليفه،
ودعا القوى السياسية الى تسهيل مهمته «لأنها مسؤولية كبرى وواجب وطني لإنقاذ البلد ممّا يمرّ به من أزمات سياسية واقتصادية ومعيشية وإنمائية».
واعتبر تيار «المستقبل»، في بيان، انه مع تكليف الحريري «فُتِحَت صفحة جديدة عنوانها العمل من أجل الإنقاذ ووقف الانهيار وإعادة إعمار ما دمّره انفجار مرفأ بيروت». ودعا جمهوره في كل المناطق إلى «مواكبة ما بعد التكليف بهذه الروحية، والتعبير عن ذلك بشكل يراعي ما تعيشه البلاد من ظروف دقيقة، سياسياً واجتماعياً وصحياً، ويلتزم بالقوانين المرعية الإجراء».
واعتبر المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش، في تغريدات على «تويتر»، أنّ «القوى السياسية التقليدية أخذت مرة أخرى على عاتقها التحرك قدماً بغَضّ النظر عن إخفاقاتها العديدة في الماضي والشكوك العميقة بشأن المستقبل». وتابع: «الأمر الآن يعود لهذه القوى لمساعدة الحريري على تشكيل حكومة ذات صلاحيات، وفعّالة لبدء تنفيذ الإصلاحات المعروفة».
وقال: «لا يمكن لأي بلد، وبالأخَص إذا كان في حالة سقوط كارثي كلبنان، الاستمرار في تسيير أموره إلى ما لا نهاية في غياب حكومة فعّالة وداعمة للإصلاح». وأضاف: «لا تنتظروا المعجزات من الخارج (…) الإنقاذ يجب أن يبدأ في لبنان».
في غضون ذلك، أعلن مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر، بعد ساعات على تكليف الحريري، أنّ بلاده ستواصل فرض العقوبات على «حزب الله» وحلفائه في لبنان، واعتبر أنه يجدر بأيّ مجلس وزراء جديد تنفيذ الإصلاحات الضرورية ومحاربة الفساد.
وشدد شينكر على «أننا منخرطون في لبنان، ونقف مع الشعب اللبناني ومصرّون على ضرورة أن تَفي كل حكومة في البلد بالشفافية والإصلاح ومكافحة الفساد، وأن يكون هناك محاسبة على الجرائم التي تم ارتكابها»، مضيفاً: «هذه هي الأشياء التي ذكرتها تضعها بلادي كشروط مسبقة لدعمنا وتقديم المساعدة، والفرنسيون طالبوا بالأمور نفسها، ومجموعة الدعم الدولية قالت بوضوح إنه ينبغي الإيفاء بتطلعات الشعب اللبناني».
وعن رأيه بتكليف الحريري تشكيل حكومة جديدة، قال شينكر: «الشعب هو من يقرّر حيال الحكومة. لبنان بحاجة ماسة الى إصلاح اقتصادي. لن أعلّق على الحريري أو على أي سياسي لبناني. الولايات المتحدة لن تعلّق أو تَدلو بدلوها في هذا الأمر. بل قلنا إنّ هناك مبادئ مهمة، مثل الإصلاح والشفافية ومكافة الفساد والمحاسبة. وإذا أرادت أي حكومة مساعدة لبنان في الخروج من الأزمة والعودة الى مساره والحصول على ثقة دولية، فيجب عليها الوفاء بكل المتطلبات». وأضاف: «رأينا كلنا الأرقام، وهي سيئة وتتصل بمسألة الدين ونسبة اللبنانيين تحت خط الفقر. نحن نلتزم المبادئ وسنتجنب إطلاق الأحكام». وأعلن أنّ «الولايات المتحدة ستستمر في فرض عقوبات ضد «حزب الله» وحلفائه، وسنستمر في السعي لفرضها ضد الذين ينخرطون في الفساد وإساءة استخدام السلطة بغَضّ النظر عن المحادثات الجارية في شأن ترسيم الحدود».