كما توقعنا البارحة، سعد الحريري عاد إلى رئاسة الحكومة مهيض الجناح ب65 صوتًا مقابل 53 نائبًا امتنعوا عن التصويت له ونائبين غابا عن الحضور. لا يسوغ لرئيس الحكومة المكلّف أن يزهو بنصر مبين، بل يسوغ له أن يقرأ علامات الأزمنة ليس عند الذين ساندوه بل عند الذين حجبوا أصواتهم عنه لأنه خرق البعد الميثاقيّ في تركيبة الدولة اللبنانيّة من ناحية، ومن ناحية ثانية لأنّ الخشية تهيمن على عقول الكثيرين من أن يكون تكليفه امتدادًا للأزمة التي أفرغت البلد من محتوياته وأوصلته ليكون متوسّلاً ومتسوّلاً، وخاضعًا صاغرًا لشروط صندوق البنك الدوليّ، ممّا يفقده الإمكانية على النهوض من ركام (أو إذا جاز الجمع من ركامات) احتقن الدم في الشرايين واختنق دماغه في غياب من يسعفه ويسنده بالأوكسيجن حتى تكون له إمكانية الحياة من جديد.
خطأ سعد الحريري البليغ والخطير نابع من مجموعة تجاوزات سمح لنفسه بالقفز فوقها بسبب عدم اعترافه بها. يتقمّص بالشكل شخصّ أبيه الشهيد في اعتناقه الفلسفة الشخصانيّة، ثم يتعثّر في المضمون لكون الابن لم يظهر سرّ أبيه في الدمج ما بين المرونة والرصانة من جهة والحزم والصرامة من جهة أخرى. يستدلّ على عثراته بمجموعة إفلاسات خطيرة وسحيقة، لو كان والده على قيد الحياة لكان عرف كيف يضيّق الفجوات ويتجاوز الأزمات ويدوّر الخلافات ويدير الرهانات بتوازن بديع وحنكة بليغة وحكمة عميقة، كان رفيق لجمالها عاشقًا.
الخطورة أن بعضنا يعوم على كوب ماء. انطلق بعضنا بظنّ بريء أو غير بريء، بأنّ تكليف الرجل استيلاد للفلسفة الميثاقيّة، بتكوين جديد لها، وراهن بأنّ أوراق القوّة بين يديه، بتحالفه مع القطاعات الاقتصادية والنفطيّة والمصارف، وبأنّه يملك طاقة كبرى على التواصل مع الخارج. وبعضنا الآخر يراه شبيهًا بأبيه بإثارة إرثه الدوليّ.
لعمري، تلك هي الخطورة عينًا. وقد تكشّف عبر مصادر متابعة ومراقبة، بأن الرجل لا يملك امتدادًا دوليًّا كبيرًا كشريك فعّال أو مضارب، بل فعاليته محدودة جدًّا من الخليج إلى فرنسا إلى الولايات الأميركيّة المتحدة. ولمن نسي، فإنّ توغلّه في الحرب على سوريا كداعم لثورة ما لبثت أن كشفت عن قناعها لتخرج من كهوفها المظلمة داعش وجبهة النصرة خطأ استراتيجيّ وخطير كان يفترض به ان يتفاداه وينفض يديه منها. ليس سعد الحريري شريكًا في القرارات الدوليّة بل هو وعاء تنزل فيه الإملاءات وهو بدوره يتلقاها ويتفاعل معها وبها.
اللافت قبل التكليف وبعده الآن بأنّ الرئيس المكلّف وضع نصب عينيه إعمار بيروت. والده حين كان رئيسًا للحكومة انغمس في مشروع إعمارها فكانت سوليدير آلة للسلب والكسب والقنص والنقص، مغرّبة وسط بيروت عن هويتها، ومهجرة أهلها ليحلّ مكانهم غرباء عنها، أو باتت حكرًا على الأثرياء من بعدما باتت عصيّة على أبناء الطبقة الوسطى في العودة إليها. وعلى هذا ثمّة سؤال يطرح: لماذا لم يعرض رئيس الحكومة المكلّف برنامجه الإعماريّ لسيدة المتوسط والإصلاحيّ لبلد ما كان ليبلغ هذا المنحنى والمنحدر لولا سياسة أبيه باعتماد الاقتصاد الريعيّ الذي أوصل لبنان نحو التسوّل والتوسّل، ليقوده بعد ذلك نحو الإفلاس بسبب اللصوصية التي مورست على حزينته، وتهريب الودائع من مصارفه؟
السؤال المحيّر للمراقبين، لماذا سعد الحريري من بعدما كان سلبيًّا ورافضًا ترؤس أيّة حكومة في عهد الرئيس العماد ميشال عون، تحوّل إيجابيًّا وأعلن نفسه حكمًا أنه مرشّح لرئاسة الحكومة؟ هل الفرنسيون أوحوا مع الروس إليه لكي يعود إلى عرينه المفقود؟ هل حاز رضى أميركيًّا خوّله العودة؟
في جعبة الرئيس المكلّف أربعة مشاريع:
تلك مشاريع يشاؤها الرئيس المكلّف مساحة استثمار، وقد تبيّن فيما مضى بأنّ سعد الحريري تشارك مع مجموعة رجال أعمال في باريس بهدف كسب أموال سيدر ضمن مشاريع يستفيدون منها بصورة خاصة والقليل منها يودع في مصرف لبنان. ويقال بأنّ الرئيس إيمانويل ماكرون حين علم بالموضوع غضب بشدّة وقرّر عدم دعم لبنان بهذا الشكل.
على هذا الأساس ثمّة سؤال يشغل بال المراقبين، هل سيعود الرئيس الحريري بالطاقم المحيط به عينه أو سنكون أمام وجه جديد ونضر آخر؟ ما هو مشروعه الإصلاحيّ؟ وما هو، تاليًا، موقفه من التحقيق الجنائيّ، فهل سيكمل به نحو الأخير مع شركة Alvarez في مصرف لبنان؟
إلى الآن ليس من جواب واضح سوى استنتاج فاضح، وهو أن الرئيس سعد الحريري مع الرئيس نبيه بري هما من يتلاعبا بسعر صرف الدولار بهدف الضغط والابتزاز. دليلنا على ذلك، بأن السفير مصطفى أديب حين أعلن اعتذاره عن التأليف ارتفع الدولار من 7500 إلى حدود ال 9000 ل.ل. بقينا على هذا المنوال إلى أن أعلن سعد في حديثه التلفزيونيّ بأنّه مرشّح حكمًا لرئاسة الحكومة، حتى بدأنا نشهد هبوطًا تدريجيًّا، ليتبيّن بأنّ الهبوط دغدغة للرأي العام فيظهر سعد الحريري على أنّه المنقذ، فيما هو المتورّط الأوّل بتلك الفوضى التي انطلقت منذ 17 تشرين الأول من سنة 2019. بالمناسبة أين هم الثوار، وأين هي الثورة؟ ألم يدعهم فخامة الرئيس للتعاون معه لإيجاد الحلول فلم يلبّوا الدعوة والنداء فتبيّن بان عدم التلبية عائد إلى إرادة حريريّة بالإيغال في التطويق. سعد الحريري إلى جانب نبيه بري ووليد جنبلاط أدوات التطويق والفوضى، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ذراعها الماليّ بل هو الأخطر بين سائر الأذرعة. سعد الحريري هو من يلعب مع حاكم مصرف لبنان مع سائر القطاعات لعبة الضغط بواسطة الدولار، ولقمة الناس وأدويتهم ونفطهم، هو من أحرق مرشحين سواه، وحارب حكومة حسان دياب، موجّهًا "الثوار" لمحاربة حسان دياب، الذي سيذكر التاريخ بأنّه رجل الضمير والأخلاق والنزاهة والعلم والمعرفة.
كخلاصة لهذا اليوم، جاء تكليف الرئيس الحريري بمفارقات واضحة وهي على النحو التالي:
في الختام، المقياس الأساسيّ للأمل، ان يقف الرئيس المكلّف ويخلع رداءه العتيق ويلبس رداءً جديدًا موشّحًا بالضياء، وإن لم يفعل ويرسّخ الصلاح بتعاون فعّال مع فخامة الرئيس فالأزمة باقية إلى أن تشرق أنوار جديدة من خلف البحار، او يتفاعل القلم والقدم بوجه الألم حتى يبزغ فجر الأمل من قلب لبنان إلى مستقبله.