لم یكن الرئیس سعد الحریري لیُقدم على خطة إعلان ترشحه الى رئاسة الحكومة ولو من ضمن شروط وضمانات
مسبقة، لو لم یكن مستندا الى إشارات دعم خارجیة وصلته ولھا صلة بموضوع "إتفاق الإطار" على ترسیم الحدود بین
لبنان وإسرائیل. فھذا الإتفاق دفع بالمجتمع الدولي الى الإھتمام أكثر بالوضع اللبناني بھدف رعایة المفاوضات والمساعدة على تشكیل حكومة في أسرع وقت، وھكذا أضیف الى الإھتمام الفرنسي بالوضع الداخلي إھتمام أمیركيبالوضع الحدودي وحصل تقاطع على سعد الحریري، بحیث لا تعود السعودیة رافضة له بالمطلق كما كانت علیه فيالمرحلة السابقة، ولا تعود ھناك عقبات داخلیة حائلة دون عودته، خصوصا وأن الثنائي الشیعي لا یعارض ذلك، وإنكان لا یقبل بكل شروطه للعودة... ولذلك، فالإنطباع السائد أن ترشیح الحریري لم یأت من فراغ ومن عدم، وإنما إنطلاقامن المرحلة التي تحتاجه الیوم ومن الظرف الذي أخرجه من الظل الى الضوء مجددا.
الإنطباع الآخر الذي تكون ھو أن الحریري، بإعلانه أنه المرشح الطبیعي لرئاسة الحكومة بعد أن كان حریصا في الأشھر والأسابیع الماضیة على نفي ترشحه، تأكد من زوال أو تلاشي العقبات التي حالت دون وصوله الى السراي الحكومي. ولذلك بادر الى التصرف بكل ثقة، موحیا أنه استعاد زمام المبادرة، وأنه الآتي تحت رایة المبادرة الفرنسیة لتشكیل حكومة إنقاذ محددة في مدتھا ومھمتھا. ولم یتورع الحریري عن المباشرة باستشارات سیاسیة من خلفیة أنموضوع التكلیف محسوم وأنه المرشح الطبیعي ورئیس "الأمر الواقع". وھذه الإستشارات التي بدأھا مع حلفائه في نادي رؤساء الحكومات السابقین، استكملھا مع رئیس الجمھوریة میشال عون ورئیس المجلس نبیه بري. وفي الواقع ھذه المرة عملیة التألیف إنطلقت عملیا من دون إنتظار إنتھاء عملیة التكلیف رسمیا، وما یفعله الحریري ویھدف إلیه من خلال ھذه الإستشارات، لیس الحصول على ضمانات مسبقة یقرر في ضوئھا مسألة الإستمرار في ترشحه أوالإنسحاب، وإنما الخوض في تفاصیل الحكومة الجدیدة، شكلا وتركیبة وبرنامجا، والتوصل الى "إتفاق إطار" حولھا ویُصار الى إصدار مرسوم التكلیف على أساسه.
یراھن الحریري على أن عودته الى السراي حان وقتھا الآن في ظل المبادرة الفرنسیة وعودة الإھتمام الأمیركي بدأ إبتعاده عن الحكم یعّم الكفیل بتلیین الموقف السعودي، وبعدما قبل عزلته السیاسیة ویضعه في الصفوف الخلفیة، وقد سئم لعبة تسمیة أو توكیل من ینوب عنه من جھة، ویساوره قلق من إندفاع طامحین الى رئاسة الحكومة من جھة ثانیة.
ولكن طریق الحریري الى رئاسة الحكومة لیست معبّدة ومفتوحة بالكامل، وھناك ما یكفي من الألغام التي تعترض طریقه، والمسألة لا تتعلق ھنا بالفیتو السعودي الذي ما زال موجودا ولكن تم وضعه جانبا، ولا بتراجع الإندفاعة والحماسة الفرنسیة وحیث لم تعد باریس في وارد التورط مرة ثانیة في التفاصیل اللبنانیة، وإنما الأمر یتعلق بالعقبات. فإذا كان جنبلاط مستعدا لتجاوز موقفه المعترض على الحریري إذا كان ذلك ثمنا لإحیاء المبادرة الفرنسیة، فإن جعجع لیس مستعدا لأن یفعل، وما لم یفعله مع مرشح المبادرة الفرنسیة مصطفى أدیب لن یفعله الآن مع من یتسلم ... والثنائي الشیعي لن یعطي سعد الحریري ما لم یعطه ھذه المبادرة لمصطفى أدیب. وحتى الآن لا موقف معلن لا سلبا ولا إیجابا، ولكن مجرد أن الثنائي لم یسارع الى تلقف مبادرة الحریري وإعلان موقف منھا یمكن تفسیره على أنه إشارة سلبیة التحفظ فیھا أكثر من الترحیب، والإشتراط أكثر من التسھیل.
وفي وقت یتربص جبران باسیل بالحریري الذي توقع سابقا أنه سیعود ویضع أمامه مجددا معادلة "نبقى معا أو نخرج معا من الحكومة"، مخیّرا إیاه بین حكومة إختصاصیین لا تكون برئاسته لأنه سیاسي، وحكومة تكنوسیاسیة تكون برئاسته وتضم كل الأطراف وضمنا التیار الوطني الحر... فإن الرئیس میشال عون، وبعدما نجح في رمي حجر الإستشارات الملزمة في میاه الحكومة الراكدة ورمى مسؤولیة التعطیل والتأخیر عنه، وبعدما نجح في تحفیز الحریري لحسم موقفه وكشف ورقته والإعلان عن ترشحه لرئاسة الحكومة، فإنه لن یكون عقبة أمام تكلیف الحریري في حال سمته أكثریة نیابیة، ولیست لدیه مشكلة للتعاون معه تحت سقف المبادرة الفرنسیة..
خلاصة الوضع أن مسألة التكلیف غیر محسومة بالكامل، وإذا لم یحصل تفاھم مسبق على الحكومة یصبح تأجیل إستشارات التكلیف إحتمالا واردا... أو یصبح الخیار الآخر مطروحا: تكلیف الحریري مع تعلیق التألیف الى ما بعد الانتخابات الأمیركیة، وإذ ذاك نكون أمام إحتمالین تبعا لنتیجة الانتخابات: إما تشكیل حكومة المرحلة الأمیركیة الجدیدة، أو إعتذار الحریري...