بعد فشل المبادرة الفرنسیة في نسختھا الأولى وسقوط تجربة مصطفى أدیب في مھدھا، غرق الوضع السیاسيوالملف الحكومي في "جمود عمیق" یتعارض مع خطورة الأزمة وانتفاء ھامش المناورات وإضاعة الوقت. المحركاتالسیاسیة أطفئت، المبادرات والعروض ُسحبت. الرئیس میشال عون یتریث في الدعوة الى إستشارات التكلیف حتى لا تتكرر تجربة مصطفى أدیب ولا یتكرر خطأ التوافق على إسم رئیس الحكومة من دون توافق مسبق على إطار الحكومةوشكلھا وتوازناتھا. الثنائي الشیعي یعتقد أنه أعاد الكرة الى الملعب الفرنسي وینتظر تقییما وتعدیلا من جانب باریسلمبادرتھا ومقاربتھا للوضع اللبناني. الرباعي السنّي إنھمك في قراءة كلام السید حسن نصرالله ودلالاته الخطیرة التيوضعت الأزمة في إطار أبعد وأشمل من تألیف حكومة...
وسط ھذه الأجواء، وحدھا مبادرة الرئیس نجیب میقاتي شكلت خرقا في "الجمود القاتل" وفتحت ثغرة في الجدار
المرتفع... فجأة قفز الرئیس میقاتي الى واجھة المشھد الحكومي وتصدره. صار "صاحب مبادرة" وحدیث الكوالیس
السیاسیة والإسم الأكثر تداولا والرقم واحد في بورصة الترشیحات الحكومیة... وفي الواقع، إنشغلت الأوساط السیاسیةوالدبلوماسیة في تقصي واستكشاف عملیة تقدم میقاتي الى منصة التألیف وما إذا كانت تستند الى عوامل ومعطیات جدیةوفرصتھا في أن تشق طریقھا الى أرض الواقع. وحفلت الوسائل والمواقع الإعلامیة بآراء المحللین الذین توقفوا ملیا عندھذا التطور وأفاضوا في التحلیل والتقدیر... وھذه عیّنة ونماذج:
واقع الأمور یكشف عن قرار واضح وثابت لدى جانب واسع من المعنیین بأمر التكلیف، مفاده العودة عن فصلالتكلیف عن التألیف والسعي إلى إنتاج "إتفاق سلة" على كافة الجوانب والعناصر، بدءا من آلیة إختیار ھویة المكلفالجدید والتدقیق في مدى إستقلالیته سیاسیا وشخصیته وشكل الحكومة وتوزیعھا وأسماء الوزراء والبیان الوزاري،فالمطلوب الیوم تسمیة رئیس واحد للحكومة لا ٥ رؤساء كما كان الحال مع مصطفى أدیب الذي وقع تحت تأثیر "ناديرؤساء الحكومات السابقین الأربعة. عملیا، ھذا یقودنا إلى الإختیار من بین تركیبة العناصر الأربعة. الأجواء بغالبیتھاتوحي أن ذلك ممكنا، فمن یجدر به قیادة المرحلة لا بد أن یتمتع بصفات ومواصفات قیادیة وقدرة سیاسیة وإمكانات ظاھرةكي لا یضع قراره عند غیره. ھناك مرشحان رئیسیان. سعد الحریري ونجیب میقاتي. الأول، أعلن باكرا عزوفه عنالترشح أو التسمیة. الأسباب معروفة، غالبیتھا خارجیة تتصل تحدیدا بظروف علاقته مع السعودیة. مع ذلك، لم تغبالمساعي عن محاولة إقناع الحریري. الممر إلى ذلك "شبكة آمان" تبدأ بإقناع السعودیة أولا، لكن ھذا العامل غیر متوفربعد. الثاني، أي الرئیس میقاتي، تتوفر فیه العناصر بشكل أوسع. علاقته مع السعودیة مضبوطة ومع الغرب لا تشوبھاشائبة، والفرنسیون إذا ما وقعت المفاضلة بین میقاتي أو أي إسم آخر من خارج دائرة "السابقین" یقع الإختیار علیه حتما،الأھم، أن ما رفع من حظوظه وعززھا، طرح ـ المبادرة التي قدمھا قبل أیام، القائمة على حكومة تكنو - سیاسیة مؤلفة٢٠ وزیرا (١٤ إختصاصیین و ٦ سیاسیین). میقاتي الذي أطلق عملیا مسار الربط بین التكلیف والتألیف، یعلم أن مثل ھذاالطرح التكنوسیاسي بإمكانه مغازلة الثنائي الشیعي والعودة أشواط بالنقاش الحكومي إلى الخلف.
تشھد الكوالیس بعض المحاولات لوضع تصور واضح، حول تشكیلة حكومیة یمكن التوافق علیھا. ھناك منیعتبر أنه لم یعد بالإمكان الإستمرار باختیار رؤساء للحكومة لا یمثلون ولا یتمتعون بأي قوة. في المعادلة المطروحة،وبظل رفض تمام سلام والفیتو القاطع على الرئیس فؤاد السنیورة، یعود الحدیث مجددا عن سعد الحریري ونجیب میقاتي.
الحریري أكد أنه لا یرید ھذه المھمة، ولن یقبل بطرح إسمه، بینما لم یصدر میقاتي أي موقف بھذا الخصوص، على الرغم
من أنه یوم الأحد الفائت رشح الحریري.
وبما أن موقف رئیس تیار المستقبل واضح، فھناك تفكیر في إمكانیة إیجاد صیغة توافقیة حول ترؤس میقاتيللحكومة.
ولكن یبقى الأساس معلقاً بمسألتین أساسیتین: المقوم الفرنسي إزاء ھذا الطرح، والموقف الأمیركي .
باریس لا یعنیھا ھذا التفصیل، ما یھمھا تشكیل حكومة وفق مبادرتھا. الأمیركیون یضعون شرطا أساسیا ھو عدم مشاركة حزبالله بشكل مباشر في الحكومة. وھناك من یعتبر أن ثمة إمكانیة لإیجاد مخرج باختیار الحزب لوزراء غیر حزبیین. على ھذا المنوال، ستبقى الكوالیس تتحرك ببطء وھدوء، بانتظار ما قد یتطور في ملف ترسیم الحدود وإعلان إتفاقالإطار. وبحال كانت ھناك نوایا جدیة لإطلاق مفاوضات الترسیم التفصیلیة وتقدیم تنازل لبناني، قد یكون ذلك مدخلالتخفیف الضغوط الأمیركیة، والتنازل عن بعض شروط واشنطن. ومنھا قد یتم تسریب تشكیلة حكومیة تبصر النور.
تجربة مصطفى أدیب لن تتكرر، والثنائي الشیعي لن یقبل إلا بحكومة تكنوسیاسیة. وھذه الحكومة كان مھد لھاالرئیس میقاتي بإعلانه أن من بین الخیارات الممكنة تشكیل حكومة یرأسھا الرئیس الحریري مع فریق اقتصادي، تكونحكومة تكنوسیاسیة تضم أربعة عشر وزیرا إختصاصیا وستة وزراء دولة سیاسیین. إلا أن طرح میقاتي الذي روج فیهللحریري ترى فیه أوساط بارزة تسویقا لنفسه، وتذھب مصادر من داخل البیت السنّي والمقربة من دائرة الرئیسالحریري تعلیقا على الطرح بالقول: "إنه یقدم أوراق إعتماده، فھو شمّر عن زنوده ... وإذا كان مستعدا لتلقف كرة النارصحتین على قلبو ...". أما على خط الرئیس سعد الحریري الذي لا یزال یحتل الأولویة لدى الثنائي الشیعي رغم كل ماحصل أخیرا، فتفید مصادر في المستقبل بأن الحریري لا یرید أصلا العودة لرئاسة الحكومة في المرحلة الراھنة وھویفضل ألا یعود في عھد الرئیس میشال عون. وتختم المصادر بالقول : "على أي حال فھو، أي الرئیس الحریري، قالبلسانه إنه لا یرید العودة.
على الطاولة الحكومیة لا توجد سوى مبادرة الرئیس نجیب میقاتي. وقد وُضعت في خانة المرحلة الثانیة منالمبادرة الفرنسیة، مرحلة إعطاء اللبنانیین مھلة ٤ إلى ٦ أسابیع لیتفقوا على شكل الحكومة الجدیدة. مبادرة میقاتي تنصعلى تشكیل حكومة من ٢٠ وزیرا برئاسة سعد الحریري، بحیث تضم ٦ وزراء دولة من السیاسیین و١٤ وزیراإختصاصیا. منذ أطلقت المبادرة لم یعلن أي طرف رفضھا. وھي تتناغم مع مطلب أغلب الكتل بضرورة وجود سیاسیینفي حكومة سیكون على عاتقھا الكثیر من الملفات، التي لا یكفي لبتھا وجود اختصاصیین. على رأس ھؤلاء ثنائي حركة"أمل" وحزب الله اللذان تتفق المبادرة مع مطلبین سبق أن طرحاھما: أن تكون الحكومة مطّعمة بسیاسیین وأن یكون سعدالحریري أو من یوافق علیه على رأسھا.
بعد سقوط المبادرة الفرنسیة بنسختھا الأولى صار من الجنون إعادة التفكیر بتسمیة رئیس حكومة من خامة أدیب أوحسان دیاب، أو السیر بحكومة من الإختصاصیین. فأي حكومة من ھذا النوع لن تكون قابلة للحیاة، لأنھا ستصطدمبالعراقیل نفسھا.
وھذا یعني أن التسمیة صارت محصورة بین الرؤساء سعد الحریري ونجیب میقاتي وتمام سلام. مجردوجود أي من ھذه الأسماء یعني نھایة حكومة الإختصاصیین، ولھذا كان منطقیا أن یطرح میقاتي مبادرة حكومةالإختصاصیین والسیاسیین، خاصة أنه سبق أن ُرفض، قبیل تكلیف دیاب، ترؤس الحریري لحكومة إختصاصیینصرف... إذا كان الأمیركي قد عرقل تشكیل الحكومة، على ما أكد الرئیس الفرنسي نفسه، فقد صارت المسألة بحاجةلإعادة نظر عقب الإعلان عن إتفاق الإطار للتفاوض بشأن ترسیم الحدود البحریة، وترحیب وزارة الخارجیة الأمیركیةبھذا الإعلان. وعقب قول دیفید شینكر إن موافقة لبنان على التفاوض مع إسرائیل ستساعده.
مشكلة المبادرة أنھا تقترح وجود الحریري على رأس الحكومة، والحریري لا یزال حتى الیوم رافضا للعودة إلىرئاسة الحكومة لأسباب عدیدة. وھذا یعني أن من بقي في المیدان ھما میقاتي وسلام، علما أنه تردد أمس أن الحریريالذي یؤید مبادرة میقاتي إقترح أن یكون الأخیر بنفسه رئیسا لھا.