تصدّرَ ملف ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان وإسرائيل الواجهة السياسية على حساب «الترسيم الحكومي» الذي دخل على ما يبدو في غيبوبة طويلة، وقد غاب عن مجموعة اتصالات جرت طوال يومين بين بعبدا وعين التينة تركّزت فقط على «الاتفاق الاطار» للمفاوضات الخاصة بالترسيم، والتي علمت «الجمهورية» انّ جلستها الاولى ستعقد في 14 من الجاري في الناقورة. وفي انتظار هذا الموعد «ما حَدا بالو بالحكومة»، بحسب قول مصدر سياسي لـ«الجمهورية»، كاشفاً ان «لا استشارات في وقت قريب، وانّ الاسابيع الستة التي حددها الفرنسي ستكون فترة انتظار دخل فيها ملف الحكومة في سبات عميق، فلا احد يتحدث مع احد ولا احد أصلاً لديه تصور لا لمرشح لرئاسة الحكومة ولا لاتفاق على حكومة، فلبنان سياسيّاً سيكون في الثلاجة ضمن المرحلة المقبلة. أمّا اقتصادياً وأمنياً فإنّ الامور مفتوحة، لكن تحت سقف الحد الادنى من الاستقرار».
مع تراجع الملف الحكومي تقدّم ملف الترسيم، واللافت للانتباه ليس اتفاق الإطار الذي أعلنه رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي هو مجرد عناوين عريضة لخريطة طريق طويلة ومتعرجة، وإنما هو بيانات الترحيب الدولية، وتحديداً من واشنطن وقيادة قوات «اليونيفل»، وإعلان الرئيس ميشال عون أنه سيتولى المفاوضة استناداً الى أحكام المادة 52 من الدستور.
ورداً على سلسلة التسريبات والنظريات التي طرحت اكثر من سؤال حول سبب إعلان بري للاتفاق الاطار، وليس رئيس الجمهورية الذي أناط به الدستور مهمة ادارة المفاوضات والمعاهدات الخارجية والدولية، قالت مصادر واسعة الاطلاع لـ»الجمهورية» ان «لا حاجة لمثل هذا التفسير، فالتفاهم قائم منذ سنوات عدة على ان يكون ملف المفاوضات في هذا الشأن مع الرئيس بري قبل ان يأخذ شكله الدستوري والقانوني وفق ما يقول به الدستور وفقاً لأحكام المادة 52 من الدستور، بدءاً من تأليف الوفد اللبناني المفاوض ومواكبة مراحل التفاوض».
وأضافت هذه المصادر انّ ما أعلنه بري كان مدار اتصالات وتفاهمات في الساعات الأخيرة التي فصلت عن موعد إعلانه في الشكل الذي شهدته عين التينة أمس بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، كما كانت واشنطن على الخط مباشرة وهي التي تَولّت الاتصالات مع اسرائيل لتنسيق النصوص والمواقف منها في شكلها ومضمونها، فيما كانت الامم المتحدة تبلغ بأيّ تطوّر بالنظر الى الدور اللوجيستي الذي أنيط بها لتكون مقراً للمفاوضات غير المباشرة بين الطرفين برعاية اميركية وبتسهيلات من قيادة اليونيفل.
وقالت المصادر انّ النص كان متفاهماً عليه بين بيروت وواشنطن وتل ابيب تَوصّلاً الى تحديد دقيق لمواعيد الإعلان عن الاتفاق، فكان التفاهم على ان يعلن لبنان ووزير الطاقة الاسرائيلي الإتفاق عند الثالثة بعد الظهر، على ان يصدر وزير الخارجية الاميركية في الثالثة والنصف عصراً موقفه بالنظر الى فوارق التوقيت بين بيروت وتل ابيب من جهة وواشنطن من جهة اخرى، وليكون بومبيو قد وصل الى مكتبه صباحاً ليكون موقفه في بداية نشاطه.
وفي معلومات «الجمهورية» انّ التفاهم على «اتفاق الإطار» الذي اعلن عنه امس واكَبه التفاهم على عقد اول جلسة للمفاوضات بين لبنان واسرائيل في مقر قيادة القوات الدولية «اليونيفل» في الناقورة، في حضور الوفدين العسكريين اللبناني والاسرائيلي ومساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الادني ديفيد شينكر، الذي سيشارك في الجلسة الاولى فقط، إلا اذا دعت الحاجة في بعض المحطات الأساسية منها، كذلك سيحضر قائد القوات الدولية الجنرال ديل كول.
وبناء على ما تقدم، سينكَبّ رئيس الجمهورية، وبالتنسيق مع وزارة الدفاع وقيادة الجيش، على تأليف الوفد اللبناني في الايام القليلة المقبلة، على ان يكون برئاسة ضابط كبير من الجيش اللبناني ويعاونه وفد موسّع من كبار الضباط، وتحديداً من المديرية الجغرافية في قيادة الجيش ومجموعة من الخبراء والمستشارين في القانون الدولي، وخصوصاً المتخصّصين في المفاوضات الدولية وقوانين البحار المطّلعين على ما يَتحكّم بها من اتفاقيات دولية لا بد من اعتمادها حفاظاً على حقوق جميع الاطراف.
وجنحت مصادر واكَبت المراحل التي قطعها التفاوض في ملف الترسيم في اتجاه عدم الافراط في التفاؤل، وقالت لـ»الجمهورية»: «الموضوع أصعب واكثر تعقيداً ممّا نتصوّر، فلا نزال في أول خطوة في طريق الـ1000 ميل المليء بالاشواك والمطبّات، خصوصاً انّ هذا الملف سيكون مرتبطاً مباشرة بأكثر من منحى سياسي ولا تزال الضبابية تلفه في لبنان والمنطقة، والتعاطي معه على أساس انه سلك طريقاً معزولاً بضوء أخضر أميركياً عن الملفات السياسية الحساسة الاخرى هو مغالاة او تمويه ليس إلّا». واضافت المصادر «انّ الجلسة الاولى في 14 تشرين الاول المقبل ستكون شكلية، والهدف منها هو أميركي اكثر منه لبنانياً او إسرائيلياً، لإعطاء الورقة الاضافية لترامب قبل الانتخابات الرئاسية الاميركية من ضمن أوراق يسعى الى تجميعها حالياً بدفع كبير دعماً له في هذه الانتخابات».
وكان رئيس مجلس النواب نبيه بري قد أعلن في مؤتمر صحافي امس التوَصّل إلى اتفاق إطار يرسم الطريق للمفاوض اللبناني لترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل.
وبعدما أذاع نص الاتفاق، قال بري انّ المفاوضات ستجري برعاية الأمم المتحدة، لافتاً إلى أنّ المنظمة الدولية ستعمل كوسيط بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البرية والبحرية، مشيراً إلى أنّ الجيش اللبناني سيقود المفاوضات. وقال: «في ما يخصّ مسألة الحدود البحرية، سيتم عقد اجتماعات بطريقة مستمرة في مقر الأمم المتحدة في الناقورة تحت راية» المنظمة الدولية. وأوضح أنّ «الاجتماعات (ستعقد) برعاية فريق المنسّق الخاص للأمم المتحدة لشؤون لبنان». وأضاف: «طُلِبَ من الولايات المتحدة من قبل الطرفين، اسرائيل ولبنان، أن تعمل كوسيط ومُسهِّل لترسيم الحدود البحرية، وهي جاهزة لذلك».
وبعد قليل من المؤتمر الصحافي لبري، صدر عن مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية البيان الآتي: «رحّب فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بإعلان (وزير الخارجية الاميركي مايك) بومبيو عن التوصّل الى اتفاق إطار للتفاوض على ترسيم الحدود برعاية الأمم المتحدة وتحت رايتها، وبوساطة مُسهّلة من الولايات المتحدة الأميركية. وسوف يتولى رئيس الجمهورية المفاوضة وفقاً لأحكام المادة 52 من الدستور، بدءاً من تأليف الوفد اللبناني المفاوض ومواكبة مراحل التفاوض، آملاً من الطرف الأميركي ان يستمر في وساطته النزيهة».
وكان بومبيو قد رحّب أمس بـ«الاتفاق «التاريخي» بين لبنان وإسرائيل لبدء محادثات في شأن الخلافات الحدودية بينهما، جرى التوصّل إليه «تحت رعاية الولايات المتحدة». وأعلن في بيان أنّ هذا الاتفاق «ثمرة جهود دبلوماسية حثيثة استمرت نحو 3 سنوات». وأضاف أنّ «الاتفاق بين الجانبين حول إطار مشترك للمفاوضات البحرية سيتيح للدولتين الشروع في محادثات من شأنها أن تفضي إلى مزيد من الاستقرار والأمن والازدهار للبنانيين والإسرائيليين على حد سواء». وأشار إلى «خطوة بالغة الأهمية تخدم مصالح لبنان وإسرائيل، والمنطقة، والولايات المتحدة»، مُعرباً عن أمله في انطلاقة «سريعة» للمحادثات حول الحدود البحرية.
وفي شأن الحدود البرية، تحدث بومبيو عن «محادثات منفصلة على مستوى خبراء لحل مسائل عالقة في شأن الخط الأزرق» الذي يفصل بين هاتين الدولتين اللتين تعدّان في حال حرب. وقال إنّ هذه المحادثات تحمل بدورها «تقدماً إيجابياً للاستقرار الإقليمي».
ولكن في موازاة موقف بومبيو المرحّب بما سمّاه «الاتفاق التاريخي»، أعلن مساعد وزير الخارجية الاميركي والوسيط في ملف ترسيم الحدود بين لبنان واسرائيل ديفيد شينكر أنه «لن يتم التفاوض مع «حزب الله» نهائياً في ما يخصّ ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل»، لافتاً إلى أنّ «هذا الاتفاق التاريخي سيساعد في حل المشكلة النهائية في لبنان». وقال إنّ الولايات المتحدة ستواصل فرض عقوبات على اللبنانيين المتحالفين مع «حزب الله» أو الضالعين في الفساد، وأكد انّ فرضَ مزيد من العقوبات لا يزال قائماً حتى بعد إعلان إسرائيل ولبنان أمس أنهما اتفقا على إطار زمني للمفاوضات المقبلة.
وبُعَيد إعلان بري الاتفاق الاطار للمفاوضات على ترسيم الحدود، رحّبت القوات الدولية العاملة في الجنوب «اليونيفيل» بهذا الإعلان، وأكدت، في بيان، أنها «على استعداد لتقديم كل الدعم الممكن للأطراف وتسهيل الجهود لحل هذه المسألة»، مشيرة إلى «أنها، وفي إطار قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701، تدعم أي اتفاق بين البلدين (لبنان واسرائيل) بما يعزّز الثقة ويحفّز الأطراف على الالتزام مجدداً باحترام الخط الأزرق وعملية ترسيم الحدود الأوسع».
وغرّد المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش عبر «تويتر» كاتباً: «أخبار مهمة وإيجابية تتمثّل في قرار لبنان وإسرائيل بدء المناقشات حول ترسيم الحدود البحرية التي ستُعقد في الناقورة في لبنان تحت علم الأمم المتحدة، ويستضيفها مكتب المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان (UNSCOL) وبمشاركة الولايات المتحدة كوسيط ومُيسّر للمناقشات الأخرى التي ستجري حول الخط الأزرق». وأضاف كوبيتش: «هذا الإنجاز الكبير الذي حققه لبنان تحت القيادة الرصينة لرئيس مجلس النواب نبيه بري، يفتح المجال لمزيد من الاستقرار والأمن والازدهار الاقتصادي، وأؤكّد انّ الأمم المتحدة لن تدّخِر جهداً للمساعدة في تحقيق ذلك، وفقاً لِما طلبته أطراف الاتفاق الإطار».
وقالت مصادر سياسية معارضة «انّ الثنائي الشيعي الذي اصطدم بالفرنسي من الباب الحكومي، انتزعَ تنويها أميركياً ودولياً من باب الترسيم الذي سيملأ الفراغ السياسي والجمود الذي دخلت فيه البلاد مع تعليق المبادرة الفرنسية الحكومية». ورأت هذه المصادر «انّ ما خسره الثنائي الشيعي مع الرئيس إيمانويل ماكرون عَوّضه مع الرئيس دونالد ترامب الذي يحتاج إلى هدية من هذا النوع عشيّة انتخاباته الرئاسية تُضاف إلى الهدايا الخليجية بالسلام مع إسرائيل، فيقدّم نفسه رجل سلام وتفاوض قادر على تحقيق ما عجز أسلافه عن تحقيقه، فيما الهدية التي يقدمها الثنائي الشيعي معنوية أكثر منها عملية طالما انّ هذا المسار ما زال في بداياته لا نهاياته».
وأكدت المصادر نفسها «انّ الثنائي الشيعي قد تَقصّد توقيت الإعلان بعد تراجع المبادرة الفرنسية وقبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، فينفِّس الاحتقان الخارجي ضده ويُفرمِل الحصار والعقوبات، كذلك يوجّه رسالة مفادها انه على استعداد للتفاوض والدخول على خط الهندسة التي تعمل عليها واشنطن في المنطقة من أجل ربط النزاع مع مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية. ولم يكتف الثنائي بإهداء إعلان الإطار لترامب، بل قدّم هدية أخرى لعون الذي سارعَ إلى ملاقاة هذا الإعلان الذي وجده «هدية من السماء» بعد تعليق المبادرة الفرنسية ودخول الملف الحكومي في جمود قاتل وانكفاء دور رئيس الجمهورية، فجاءه ملف الترسيم ليعيد دوره إلى الواجهة وهذه المرة من البوابة الأميركية الترسيمية لا الفرنسية الحكومية. ووصّفت المصادر «إعلان بري» بأنه «ضربة معلّم ترمي إلى إعادة ترسيم دور «الثنائي» داخلياً وخارجياً».