أعلن الرئیس سعد الحریري في بیان صادر عنه مساء أمس أنه "قرر مساعدة الرئیس المكلف مصطفى أدیب على إیجاد مخرج بتسمیة وزیر مالیة مستقل من الطائفة الشیعیة، یختاره ھو، شأنه شأن سائر الوزراء على قاعدة الكفاءة والنزاھة وعدم الإنتماء الحزبي، من دون أن یعني ھذا القرار في أي حال من الأحوال إعترافاً بحصریة وزارة المالیة بالطائفة الشیعیة أو بأي طائفة من الطوائف. ویجب أن یكون واضحاً أن ھذا القرار ھو لمرة واحدة ولا یشكل عرفا یُبنى علیه لتشكیل حكومات في المستقبل، بل ھو مشروط بتسھیل تشكیل حكومة الرئیس أدیب بالمعاییر المتفق علیھا". ھذه الخطوة "الحریریة" أعادت تحریك عملیة تشكیل الحكومة وخلطت أوراقھا مجددا بعدما كانت بلغت الطریق المسدود وتراوح مكانھا. ولكن ھل ھي خطوة كافیة لاختراق الجدار وإنھاء أزمة الحكومة؟! وھل یلاقي الثنائي الشیعي تنازل الحریري وخطوته التراجعیة الى الوراء في موضوع وزارة المال بتنازل مماثل وخطوة الى الأمام باتجاه الإفراج عن الحكومة؟! وھل عقدة التألیف تكمن فقط في وزارة المال؟!
كان الحریري أعلن بعد تكلیف مصطفى أدیب أن ھذا آخر تنازل یقوم به وآخر تضحیة یقدمھا... وبالفعل، وبالإنتقال الى مرحلة التألیف، إنتقل الى موقع الھجوم ومن یمسك بزمام المبادرة، ولم یجد حرجا في التوجه الى الرئیس نبیه بري حاملا ثلاث أسماء لتولي حقیبة المالیة بعد رفضه القاطع والغاضب أن الرئیس الفرنسي سیتحدث إلیه... الحریري المتھم الأساسي من قبل الثنائي الشیعي بأنه یتولى ویقود عملیة تألیف الحكومة لتنفیذ أجندة أمیركیة لقلب میزان القوى السیاسي وتعدیل قواعد اللعبة، وبأنه یراھن على الأزمة المالیة الخانقة والمبادرة الفرنسیة المندفعة والعقوبات الأمیركیة المسلطة... والآن تأتي مبادرته لتعلن تراجعه وتقدیم التنازل الثاني من جانبه، نزولا عند طلب الفرنسیین الذین لا یرغبون في رؤیة مبادرتھم اللبنانیة تتھاوى ومصالحھم في المنطقة تتھدد إنطلاقا من لبنان. وفي الواقع، لم یقدم الحریري تنازله لمصلحة الثنائي الشیعي بشكل طوعي متجرعّاً السّم، كما قال، وإنما إضطُر للرضوخ الى الضغط الفرنسي من جھة، والى واقع أن الحكومة لن تتألف من دون تلبیة المطلب أو الشرط الشیعي... وھذه الخطوة خطوة ّ تنم "، و"خطوة ّ تنم عن تسرّع التي تتراوح التقدیرات والتوصیفات لھا بین " عن شجاعة سیاسیة وروح وطنیة ، تسببت بصدا حلفاءه من دون أن یرضي خصومه... وتھوّر وروح المغامرة السیاسي للحریري الذي أغضب فالحلفاء والأصدقاء أخذوا علیه أنه خرق بقرار منفرد شبه إجماع سیاسي ووطني على عدم تخصیص أي طائفة بوزارة معینة، وباعتبار أن ذلك یشكل مخالفة دستوریة، وأنه یغامر برصیده الشعبي ومستقبله السیاسي عندما یعاكس السیاق والمناخ العام الآخذ في رفع درجة الضغوط على حزب الله ومواجھته، وعندما یقدم لحزب الله تنازلا جوھریا ومجانیا، إذ لیس ھناك من یضمن أن ما قدمه الحریري سیكون كافیا للحصول على التنازل الشیعي بالمقابل وللوصول الى تشكیل الحكومة.
وأما "خصوم" الحریري في ھذه المعركة الحكومیة، وتحدیدا بري وحزب الله، فإنھم یتعاطون مع مبادرته بفتور وحذر، لأن التنازل الذي قدمه، وإن تضمن إقرارا وتسلیما "بشیعیة" وزارة المال، إلا أنه جاء تنازلا مشروطا بأن يسمّى الرئیس المكلف وزیر المال الشیعي، ومقرونا بتحفظ شدید بأن ھذا التخصیص لیس تكریسا لوضع دائم وإنما یحدث لمرة واحدة وأخیرة...
"منطق الأمور" یقول إن الحریري تنازل من جھته ووافق على أن تكون وزارة المال للشیعة، وأن على الطرف الشیعي أن یتنازل بالمقابل ویوافق على أن تفتح الطریق فيسمّي الرئیس المكلف وزیر المال أسوة بالوزراء الآخرین، أمام حكومة مصطفى أدیب وتنجو المبادرة الفرنسیة من "موت محتم" وتتوقف مسیرة الذھاب الى "جھنم"... ولكن واقع الأمور یشیر الى أن الثنائي الشیعي متمسك، لیس بتسمیة وزیر المال فقط، وإنما بتسمیة كل الوزراء الشیعة، وھذا وحده سبب كافٍ لإعطاء أفرقاء آخرین الذریعة والدافع لكي یتمسكوا بتسمیة من یمثلھم في الحكومة... وبالتالي، لتعقید عملیة تشكیل الحكومة وتظھیر أن التألیف لا یقتصر على وزارة المال، وأن ھناك عقداً أخرى حجبھا النزاع حول وزارة مال وحوّل الأنظار عنھا... وفي مطلق الأحوال، فإن خطوة الحریري وضعت كرة الحكومة في الملعب الشیعي، وعلى ضوء موقف "الثنائي" یتحدد مصیر الحكومة. إذا كان في وارد التنازل جزئیا بأن یختار الرئیس المكلف ومن وراءه إسماً من لائحة أعّدھا الرئیس بري، یعني ذلك أن ولادة الحكومة صارت وشیكة... وإذا قرر التمسك بموقفه كاملا یعني ذلك أن أزمة الحكومة أكبر وأعقد من "مقعد وزاري"، وأن حكومة تصریف الأعمال مستمرة حتى الانتخابات الأمیركیة.
قالت مصادر مطلعة إن الإتصالات التي تلقتھا موسكو من باریس طلبا للمساعدة أدت الى دعوة وزیر الخارجیة الإیراني محمد جواد ظریف الى موسكو غدا للقاء نظیره الروسي سیرغي لافروف. وفي المعلومات، أن على جدول أعمال الزیارة، بالإضافة الى سلة العقوبات الأمیركیة الجدیدة على إیران، والتي طاولت كیانات وشخصیات على صلة بالملف النووي الإیراني، تطورات الملف السوري والوضع في لبنان في ضوء تعثر مساعي تألیف الحكومة طلبا لدعم المبادرة الفرنسیة التي واكبتھا موسكو بلا تحفظ بعدما كانت العاصمتان الفرنسیة والروسیة قد مھّدتا لھا عبر فریق دبلوماسي فرنسي یتولى الإتصالات مع طھران وموسكو في آن معا.
وتوضح مصادر على خط "الثنائي": "قد یراھن الفرنسي وغیره على تحرك ما، إقلیمي أو من جانب الإیرانیین، لكن ھذا الرھان خاطئ. فھناك سوء تقدیر لدى اللبنانیین بخصوص موقف إیران التي لا تتعاطى كعادتھا في التفاصیل خارج إطار التفاھم الشیعي. عملیا، الإیرانیون تبلغوا منا تمسكنا بالحقیبة ولیس العكس".
(صدر لیلا بیان لوزارة الخارجیة الفرنسیة قالت فیه إنھا تأسف لعدم وفاء المسؤولین اللبنانیین إلى حد الآن بالتعھّدات التي قطعوھا في الأول من أیلول للرئیس الفرنسي إیمانویل ماكرون خلال زیارته إلى لبنان بتشكیل الحكومة في غضون أسبوعین. وتابع البیان: "ندعو إلى التوصل بدون تأخیر لإتفاق على تشكیل مصطفى أدیب حكومة مھمّة تطبّق الإصلاحات اللازمة").
أثار موقف الرئیس سعد الحریري نقمة واستیاء رؤساء الحكومات السابقین نتیجة حجم التنازل الكبیر الذي قدمھ بفعل الضغوط التي مورست على أكثر من مستوى، ولا سیما منھا التھدیدات التي صدرت عن الثنائي الشیعي وما رافقھا من حملات تھویل على البلد ومصیره، على حد قول أحد المعترضین على موقف الحریري.
ولوحظ أن الرؤساء السابقین للحكومة (نجیب میقاتي وفؤاد السنیورة وتمام سلام) نفضوا أیدیھم من مبادرة
الحریري، معتبربین أنھا مبادرة شخصیة. وأكدوا في بیان لھم أن "الدستور اللبناني شدید الوضوح في أنه لیس ھناك من حقیبة وزاریة یمكن أن تكون حكرا أو حقا حصریا على وزراء ممن ینتمون الى طائفة أو مذھب معیّن بعینه، والى أي فئة طائفیة أو مذھبیة ینتمي إلیھا، أي حقیبة وزاریة في شيء یحول، وحسب الدستور، دون أن یتول لبنان. إنه وبعد الضجة المفتعلة التي أثیرت بشأن حقیبة وزارة المالیة، فإننا نعتبر أنفسنا غیر ملزمین بھذه المبادرة". وبدا لافتا في بیان الثلاثي أنه حیّد أدیب عن أي إستھداف، مكتفیا بالتصویب على مبادرة الحریري.
وأوضحت مصادر مواكبة لموقف الحریري أنه استمزج رأیھم لكنھم عارضوا إقتراحه كل على طریقته واعتبروه تنازلا غیر مفید، فقرر المضي قدما في الطرح وأخذه على عاتقه الشخصي لعله یشكل مخرجا إنقاذیا للبلد.
ُعلم أن مستشار الرئیس سعد الحریري النائب السابق غطاس خوري زار فرنسا (قبل إعلان مبادرة الحریري) وأجرى إتصالات ھناك تتعلق بالمخارج الممكنة.
تشیر مصادر الى أن الرئیس عون سعى إلى الحصول على وزارة المال منذ الأسبوع الأول لتكلیف الرئیس أدیب، فاقترح أن تُسند مع وزارة الداخلیة إلى وزیرین مسیحیین، بنیة تسمیتھما من قبل رئیس الجمھوریة، على أن تُسند حقیبتا الخارجیة والدفاع إلى المسلمین، عكس التوزیع الذي عمل الرئیس المكلف علیه، إذ كان ینوي إسناد المال للسنّة والداخلیة و الدفاع ماروني، وتُسند الخارجیة إلى أرثوذكسي. ھدف الرئیس عون كان أن یسمي ھو والتیار للشیعة على أن یتولى الوطني الحر الوزیرین المسیحیین في المال والداخلیة، وفقا لمبدأ حاجة رئیس الجمھوریة إلى أن یكون له وزراء یطرحون موقفه في مجلس الوزراء ویصوتون إلى جانبه. ولذلك أیضا أشار في بیانه الإثنین إلى أن رئیس الجمھوریة حین یرأس مجلس الوزراء لا یصوت وفقا للدستور.
طرحت أوساط في مجلس خاص تساؤلات عن سبب عدم إبداء رئیس تیار "المردة" سلیمان فرنجیة أي موقف حیال حقیبة المالیة، كاشفة أنه تلقى نصیحة بوجوب عدم التردد في تظھیر دعمه لمطلب "الثنائي الشیعي".