"ذاھبون الى جهنم"... ھذه العبارة ھي التي "علِقَت" في أذھان اللبنانیین وحجبت ما عداھا من أفكار ومقترحات
قدمھا رئیس الجمھوریة في مؤتمر صحافي نادر الحدوث، زاد في منسوب القلق والخوف مما ھو آت، من دون أن ینجح
في فتح ثغرة في جدار الأزمة وفي تغییر شيء على أرض الواقع... في الشكل، جاءت إطلالة الرئیس ضعیفة. فقد بدت
علامات التعب والأسى على وجهه، تُضاف إلیھا علامات التشاؤم ونظرة سوداویة مع إقرار عون بأن "المصریات رح
یخلصوا"، قاصدا إحتیاطي مصرف لبنان من العملات الأجنبیة، وإقراره بالعجز وعدم القدرة على فعل شيء، مشیرا الى
"عقم النظام الطائفي" و"الى أن الحل لیس بیدي بل عندھم"، ومعترفا بأنه اقترح حلولا وسطیة لم یتم القبول بھا من
الطرفین، و"أننا أمام أزمة تشكیل حكومة، وأننا في حال لم تتم الموافقة على ما قدمتھ ذاھبون الى جھنم"...
"المضمون"، بعكس الشكل، جاء قویا ومتماسكاً ومدروساً بعنایة فائقة، ونجح من خلاله الرئیس عون في تقدیم
نفسه من موقع " َ الحكم" ومن یقف على مسافة واحدة من طرفي المشكلة التي حددھا ضمنا بأنھا مشكلة سنیّة ـ شیعیة،
مقدماً عرضاً لیس فیه غالب ومغلوب وموزعاً المسؤولیات بشكل دقیق ومتوازن، واضعا نفسه جانباً. فلا ھو جزء من
ولا یتحمل مسؤولیتھا، وإنما ھو جزء من الحل وضمانة له ویقدم مقترحات ومخارج على الأزمة الحكومیة الراھنة لطریقة "اللھم أشھد أني بلّغت، وأنني حاولت"...
عرض عون للمشكلة وفنّدھا وأعطى الطرفین علامات متساویة: أعطى الثنائي الشیعي إیجابیة التمسك بالمبادرة
الفرنسیة وأخذ علیه سلبیة الإصرار على وزارة المالیة. أعطى الرئیس المكلف والفریق الداعم له إیجابیة الإصرار على
عدم تألیف حكومة لا تحظى بتوافق وطني وأخذ علیه سلبیة عدم إشراك الكتل النیابیة. ولكن جوھر المبادرة الرئاسیة
والاقتراح الأھم الوارد فیھا ھو عرض "إلغاء التوزیع الطائفي للوزارات التي ُسمیت سیادیة، وعدم تخصیصھا لطوائف
معینة، بل جعلھا متاحة لكل الطوائف... وھذا الإقتراح الذي یدغدغ مشاعر ومطالب الطوائف الصغرى وینظر إلیه
كخطوة إیجابیة على طریق الدولة المدنیة یُطرح في توقیت سیاسي غیر ملائم، ولا یعني في ھذا الوقت إلا أمرا واحدا
وھو أن رئیس الجمھوریة لا یوافق على تمسك الثنائي الشیعي بوزارة المال وتسمیة من سیشغلھا كشرط للإفراج عن
الحكومة، ولا یوافق على تخصیص وزارة المال للطائفة الشیعیة، معتبرا ذلك مخالفا للدستور. وعملیا، یكون الرئیس
عون قد قرر عدم الوقوف مع حزب الله في معركته الحالیة، وإنما أراد تمییز موقفه والنأي بنفسه عن الأزمة الحكومة
الراھنة بخلاف ما كان علیه الأمر لسنوات خلت عندما كان عنوانا رئیسیا في أزمات التألیف...
ٍوعن موقف رئیس الجمھوریة،
من الطبیعي أن یكون حزب الله غیر راض وكان قد توقع أن یكون واقفا
معه في ھذه المعركة بالطریقة التي وقف ھو في كل المعارك الحكومیة السابقة، عندما كان یعلن لا حكومة من دون
باسیل ولا حكومة من دون وزارة الطاقة للتیار، إلخ... ولكن رئیس الجمھوریة یجد نفسه للمرة الأولى في الموقع الذي
لا یمكنه من أن یكون الى جانب الحزب معلنا أن لا حكومة من دون وزارة المال للشیعة، وأن یجاریه في وجھة نظره
التي تقول إنه یواجه ضغوطا وحصارا وانقلابا سیاسیا علیه، یبدأ من الحكومة وإقصائه عنھا... لا بل یجد عون نفسه
وللمرة الأولى في موقع الباحث عن تمایز لیضع نفسه وما تبقّى من عھده في منطقة آمنة...
الأزمة الحالیة وضعت لبنان على مفترق طرق حساس، وكشفت عن إفتراق مصالح بین عون وحزب الله وعن
"خلاف أولویات"... ومن الواضح أن الرئیس عون متمسك بالمبادرة الفرنسیة ویرید لھا النجاح، لیس فقط لأنھا
الفرصة الأخیرة لإنقاذ البلد، وإنما لإنقاذ عھده أیضا. ولكن بالنسبة لحزب الله لیست الأھم وفشلھا لن تكون "نھایة
العالم"... والرئیس عون متوجس من الضغوط والعقوبات الأمیركیة التي یمكن أن تطال القریبین منه، ومدرك لأھمیة
وحجم التحول الحاصل عند المسیحیین بعد إنفجار ٤ آب، ونتیجة المواقف المتقدمة للبطریرك الراعي والتفاف الأحزاب
المسیحیة حولھا، ونتیجة كل ذلك لا یمكنه أن یتبنّى موقف حزب الله وتصوره للحكومة الجدیدة المفترض أنھا مفصلة
على قیاس المبادرة الفرنسیة، وأن حزب الله ملتزم تجاھھا... وما ینتظره عون من حزب الله أن یلاقیھ في منتصف
الطریق ویتجاوب مع مبادرتھ التي تضع السلم على الشجرة العالیة التي تسلقھا الثنائي الشیعي بعدما ذھب حزب الله
بعیدا في ھواجسه ومعركته الى حد تعریض علاقته مع الفرنسیین الذین حضنوه وتفھموه ومع حلیفھم المسیحي الأول
رئیس الجمھوریة، والى حد تحمیله أكثر من غیره مسؤولیة فشل تشكیل الحكومة والذھاب الى جھنم...