دخل لبنان مرحلة حاسمة في تقرير مصيره وهو متحرّك في وسط لجج مختبطة سيكون لها التأثير الكبير في مصير المنطقة بأسرها.
بداءة المقال ملاحظة عنوانها "سدّ بسري"، إنّ هذا السدّ يمتاز بموقع استراتيجيّ ليس في الجغرافيا البحت بل في ما يسمى بالجيو-بوليتيك الرابط بين لبنان وإسرائيل. بمعنى أن قرار إيقاف مشروع تمويله من قبل البنك الدوليّ يحوي ثلاث أهداف:
1-تجميد ضخّ المياه باتجاه قسم كبير من بيروت وجبل لبنان، يصبّ باتجاه استمرار تطويق العهد ومعه حزب الله، وهذا دلّ بصورة واقعيّة على أن الحرب الأميركيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لم تتوقف بعد على لبنان، على الرغم من ريارتيّ ديفيد هيل وديفيد شينكر.
2-توجيه صفعة أميركيّة لإيمانويل ماكرون إنطلاقًا من هذا التجميد عينًا، الذي في خطابه السياسيّ اللبنانيّ، رفض الكلام في مسالة سلاح حزب الله، وركّز في تأليف حكومة تحوز على تمثيل الجميع، وتكون بالتالي منتجة.
3-إيقاف المشروع يصبّ في مصلحة إسرائيل التي تجهد ليكون ترسيم الحدود لصالحها، وتدّعي إسرئيل بأن مياه سدّ بسري يفترض أن يصبّ في أرضها، وقد حقّق الأميركيون لإسرائيل هذا الهدف.
الأهداف الثلاثة ليست منفصلة عن التحريض الداخليّ المتواصل مع الإدارة الأميركيّة على وجه التحديد، بل هي مكنونة في جوفه، ذلك أن مشروع سدّ بسري، قد تحوّل من حالة تفصيليّة إلى ورقة ضاغطة حركتها القوات اللبنانيّة إلى جانب الحزب التقدميّ الاشتراكيّ، الذي ما لبث الاشتراكيّ أن تراجع عن رفضه للمشروع. فتلقفها الأميركيون ليوقفوا تمويل المشروع برمته.
لماذا الكلام على التحريض في هذه اللحظة بالذات وما هي بالتالي أهدافه؟
1-لأنّ المشروع الأميركيّ المستند على مفهوم الفوضى الخلاّقة قد فشل بالكامل. فلم يعد الأميركيون قادرين على استكمال الضغط المباشر بطرائق التمرّد والعصيان إنطلاقًا من ثورة 17 تشرين الأوّل 2019 وقد بتنا على أبواب ذكراها السنويّة الأولى.
2-لأنّ الأميركيين استنفدوا قواهم ضمن أذرع لم تستطع رفع السقوف لدرجة تغيير وجه البلد بمحاولة اقتلاع العهد من جذوره ومحاصرة حزب الله، فتبيّن بأنّ الحلف بأفاقه الاستراتيجيّة وأهدافه الفعليّة أقوى بكثير من قيام جبهات فوضويّة ومن ثمّ فتنويّة. أوراق القوة يملكها ريس الجمهوريّة أكثر من الآخرين.
3-لأنّ الحزب الوحيد المتواصل بصورة مباشرة مع الإدارة الأميركيّة ومع المملكة العربيّة السعوديّة هو القوات اللبنانيّة، فلا بدّ من نقل الصراع مباشرة إلى الدائرة المسيحيّة بشدّة وقسوة تذكرنا بمقدمات حرب الإلغاء. فجاءت كلمة رئيس القوات سمير جعجع في قداس الشهداء معبّرة عن تلك الرؤية من دون قياس حول ما إذا كانت القوات على استعداد للتوغّل في مشهد صداميّ، أو أنّها كما سواها ستطوي الصفحة لكون التجربة في السابق كانت قاسية، وقد كنّا أمام صراع آلهة بالمقاييس الإغريقية داخل الساحة المسيحيّة.
كثيرون لاحظوا بأن ديفيد شينكر خلال زيارته إلى لبنان لم يجتمع مع قيادات سياسيّة. عدم الاجتماع سوّق له إعلاميًّا، إنما في الواقع اجتمع مع بعضهم بلا إعلام، ومن بين هؤلاء كان لقاء مع أحد لمسؤولين الكبار في القوات، وليس واضحًا ما إذا كان اجتمع برئيسها سمير جعجع.
خلال الحديث بين شينكر والمسؤول القواتيّ، وعلى ذمّة بعض المصادر المتابعة، أثار شينكر وبهدوء تام، وبعكس اللقاء مع النواب المستقيلين في بكفيّا الأسباب الموجبة لعدم التمكّن من الإطاحة بالعهد ومحاصرة حزب الله بتلك الإطاحة، ليظهر المسؤول القواتيّ بأن قوى الرابع عشر من آذار سابقًا لا تملك الرؤية تفسها، وبعضها لا يزال ينظر إلى وجوده من ضمن ثقافة الخصوصيات والحرص على بقائها، فسقطت إمكانية التلاقي على هذا المشروع. لكن الشيء الذي تمّ التركيز عليه في المداولات بأنّ الضغط الماليّ والاجتماعيّ الاقتصاديّ في مكان ما أن يؤلّب الناس على رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون والتيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله، ثم جاء الكلام على مشروع سدّ بزري كإحدى الأوراق الممكنة للمزيد من الضغوطات، ومحاولة تجويف الدعم الفرنسيّ للعهد وعقابًا لماكرون بسبب رفضه الكلام على سلاح الحزب.
تشير المعلومات هنا، وفي سياق مرتبط، بأن رئيس القوات اللبنانيّة، وخلال الاجتماعيين مع الرئيس الفرنسيّ امتعض كثيرًا، حاول الرجل استدخال قضيّة سلاح حزب الله ليواجه برفض فرنسيّ، ثمّ حاول الكلام على الانتخابات النيابيّة المبكرة ليشير إليه ماكرون بأنّ الموضوع محوره الإصلاح المطلوب من لبنان أن ينجره بحكومة قادرة على تسويغه ومن ثمّ تشريعه.
مصدر دبلوماسيّ كشف، بأنّ مسالة الإصلاح شتضع لبنان امام مسؤولية تاريخيّة. غير أنّه شكّك بنيّة معظم السياسيين الذين يقولون قولاً ويبدّلون فعلاً، أويظهرون ما لا يضمرون. يخشى المصدر المذكور من أن يفوّت لبنان عليه لحظة مضيئة مع توافق دوليّ واضح أقلّه بين فرنسا وروسيا وأميركا (ترامب) بوضعه داخل غرفة العمليات والقيام بعملية إصلاحية جذريّة. وبحال فوّتها فسيكون لبنان أمام انكشاف أمني خطير قد يبيح مجموعة فتن على أرضه تنطلق من الساحة المسيحيّة لكونها هشّة وتحتقن في أمكنة أخرى كما في خلدة أو في بعض أحياء بيروت أمس.
من هنا، ينظر هذا المصدر إلى الحكومة المنتظرة بأنّها ستحمل على عاتقها وإلى جانب فخامة رئيس الجمهورية عبء كتابة تاريخ جديد للبنان. والمسلّمة الجوهريّة الوحيدة في الإصلاح أن ليس من تزاوج بينه وبين الفساد. هذا العنوان هو جوهر الصراع، وما أعلنه حاكم مصرف لبنان باستمراره في تحمّل مسؤولياته، مؤشّر إلى استمرار الصراع وما كان ليقول هذا الكلام لو لم يعط جرعة داخليّة من بعض الأطراف المعنيين وجرعة خارجيّة أميركيّة بوجه الإرادة الفرنسية المصرة على إقالته.
إنها لحظة تقرير المصير وما على لبنان سوى أن يثب ضمن خيار خلاصه بل قرار خلاصه بثورة إصلاحيّة تعيد للبنانيين حقوقهم وللوطن بهاءه.