عكس المشهد الداخلي في لبنان امس مفارقة مذهلة تمثلت في فراغ سياسي ورسمي لبناني كان من علاماته الفارقة ان أي مؤشر لم يبرز بعد لتحديد موعد الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس الحكومة الجديدة، والمرجح ان تتأخر لفترة غير قصيرة، في مقابل احتدام بارز للغاية لحركة الموفدين والمسؤولين الديبلوماسيين التي استعادت عبرها بيروت وجها غالبا ما تشهده في عز الازمات. ذلك انه بعد نحو عشرة أيام من انفجار مرفأ بيروت بدت الحركة الديبلوماسية الكثيفة التي استقطبها كأنها تجاوزت تداعيات الانفجار الى الابعد، ولو ان التحركات الأمنية والعسكرية على هامش الحركة الديبلوماسية لا تقل أهمية بدلالاتها خصوصا من خلال مشاركة محققين فرنسيين واميركيين في التحقيقات الجارية في الانفجار كما في وصول قطعة حربية فرنسية كبيرة هي حاملة طوافات امس الى مرفأ بيروت. ومع ذلك اكتسبت الحركة الديبلوماسية المحمومة ابعادا مثيرة لاهتمام الأوساط الداخلية والخارجية اذ بدا واضحا ان كلا من الولايات المتحدة وفرنسا تتوليان تحركا على جانب واسع من التنسيق حيال الاستحقاقات الداهمة في لبنان بما فيها الاستحقاق الحكومي، فيما لم تتأخر ايران عن اثبات حضورها ولفت الأنظار الى مواقفها للدلالة على نفوذها وعدم اسقاطه من كل ما يحضر من سيناريوات للمرحلة المقبلة. هذا المشهد برز في الحضور الديبلوماسي الثلاثي الأميركي والفرنسي والإيراني امس في بيروت من خلال جولات كل من وكيل وزارة الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد هيل في اليوم الثاني من زيارته لبيروت ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ووزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي. ويمكن القول ان تحرك هيل بعد إجرائه سلسلة من اللقاءات الكثيفة والمتعاقبة مع المسؤولين الرسميين والسياسيين والتي يستكملها اليوم قبل مغادرته الى قبرص ابرزت في حصيلتها ملامح الموقف الأميركي من الاستحقاق الحكومي بما يعكس تشددا غير مسبوق حيال الازمات الإصلاح التي باتت الممر الأول والاساسي لاي دعم دولي او غطاء دولي للحكومة خصوصا بعد انفجار المرفأ. ففي المعلومات التي توافرت لـ”النهار” من مصادر جهات عدة شاركت في اللقاءات مع هيل ان التحرك الأميركي يأتي استكمالا لتحرك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وان الكثير من الطروحات الأميركية والفرنسية تكاد تصبح موحدة حيال النظرة الى المعالجات اللازمة للوضع في لبنان سياسيا واقتصاديا وماليا واجتماعيا. وتكشف هذه المصادر ان هيل لم يتحدث امام الذين التقاهم عن حكومة وحدة وطنية بل أوحى ان بلاده لا تؤيد إعادة تجربة هذا النوع من الحكومات، بل شدد على ان ما يحتاج اليه لبنان بقوة هو حكومة مستقلة تضم أشخاصا خبراء ومحترفين وذوي تأثير حقيقي في القطاعات التي يتولونها، كما شدد على نقطة جوهرية هي ان ترضي الحكومة اللبنانيين والشارع المنتفض كما الراي العام الخارجي لتتمكن من الحصول على الدعمين الداخلي والخارجي الضروريين. وتفيد المعلومات ان هيل ابدى انطباعات إيجابية حيال تكليف الرئيس سعد الحريري شرط تشكيل حكومة بهذه المواصفات وعدم تكرار التجارب الحكومية السابقة. وكشفت ان المفارقة برزت لدى تلمس هيل من الحريري لدى اجتماعهما امس في بيت الوسط تشددا مماثلا لدى الحريري في عدم القبول بتكليفه ما لم يضمن مواصفات حكومة قوية ومستقلة وقادرة فعلا على اجتراح حلول للازمات المصيرية التي تحاصر البلاد. وقالت المصادر ان هيل لم يأت في لقاءاته العديدة على اشتراط عدم مشاركة “حزب الله ” في الحكومة المقبلة لانه كان يردد ضرورة ان تكون الحكومة من المستقلين أي من خارج الأحزاب ولو بدعم من القوى الداخلية. وبدا لافتا ان هيل لم يلتق الوزير السابق جبران باسيل في ما فسره مصدر سياسي معني بان باسيل اخرج من القيادات السياسية اللبنانية المعترف بها دوليا.
وقالت أوساط بارزة لـ”النهار” ان الحديث بين هيل ورئيس الجمهورية تناول “حكومة تحكم” أي تكون قادرة على إعادة انتاج النظام الاقتصادي للبنان وتنفيذ خطة إصلاحية وان تكون منتجة وفاعلة فلا تكتفي بالوعود في بيانها الوزاري وتتولى رفع خسائر الانفجار وتنظيم المساعدات. وشدد هيل على حكومة تنال ثقة اللبنانيين والمجتمع الدولي. واكد الرئيس عون لهيل انه ماض في الإصلاح الى اليوم الأخير وان على الحكومة المقبلة ان تكون منسجمة وان تمضي بخطة إصلاحية سياسية واقتصادية ومالية. وعرض لهيل ان التحقيق جار في الانفجار وليس في مسبباته فقط وصولا الى إظهار الحقائق ومحاسبة المسؤولين. ورحب بالمساعدة الأميركية والفرنسية وغيرها بما يسرع التحقيق.
“لا للوعود الفارغة”
وشملت جولة هيل امس ترافقه السفيرة دوروثي شيا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب والرئيس سعد الحريري وزار بعد الظهر بكركي والتقى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي موضحا انه ناقش معه المساعدات الإنسانية والأوضاع الراهنة في لبنان. وأجمل هيل على الأثر حصيلة الاجتماعات التي عقدها فقال “شدّدت على الحاجة الملحّة، التي اسمعها من الشعب اللبناني، للاستجابة لمطالبه من خلال تبني أجندة إصلاح واسعة النطاق والانتشار.أصبح من الواضح، من خلال يومي هذا، أنني أرى أنه هناك حاجة إلى قدر كبير من العمل لتحقيق الأهداف والغايات التي دافع عنها الشعب اللبناني منذ فترة طويلة، جهد متضافر لاقتلاع الفساد، والقيام بالإصلاحات المالية والاقتصادية. والعمل على التغيير في المؤسسات اللبنانية، قضايا، كبسط سيطرة الدولة على الموانئ والحدود، وإصلاح شبكة الكهرباء، والبحث من جديد في شبكة الأمان الاجتماعي. إن دفع المسار الى الامام لا يمكن، بالطبع، أن يتمّ إلا من خلال اللبنانيين. إن أميركا والمجتمع الدولي يعملان على تقديم الدعم الإنساني للشعب اللبناني من أجل تلبية الاحتياجات الملحّة. إنما، على المدى الطويل، لا يمكننا قبول المزيد من الوعود الفارغة والمزيد من الحكم غير الفعال. إنني أستمع إلى مطالب حول إصلاح حقيقي يتسم بالشفافية والمساءلة. إن أميركا مستعدّة لدعم حكومة لبنانية تعكس إرادة الشعب وتستجيب لها، وتلتزم بصدق وتعمل من أجل تغيير حقيقي”.
ومساء زار هيل ترافقه شيا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط في كليمنصو وتناولا العشاء الى مائدته.
ظريف
في المقابل كان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال جولته على المسؤولين اللبنانيين يوجه سهام الانتقادات الى التحركات الفرنسية والأميركية فاعتبر ان “لبنان وحده حكومة وشعبا من يقرر في شأن الحكومة ويجب الا يستغل احد الظروف لفرض إملاءاته على لبنان وليس إنسانيا ان يستغل المرء هذا الوضع المأسوي لفرض إملاءاته”. وقال ان لبنان “كبلد مستقل يجب ان يضطلع بالتحقيقات في حادث المرفأ “. وإذ أشار الى ان الدول الأوروبية تقوم بمبادرات كثيرة قال ان “الإدارة الأميركية اثبتت انها اعجز من فهم حقيقة الوضع في المنطقة ولبنان وفلسطين”.
نصرالله
واكتمل مشهد اليوم الطويل من التزاحم الديبلوماسي والسياسي مساء بكلمة الأمين العام لـ”حزب الله ” السيد حسن نصرالله الذي اطل للمرة الأولى على الاستحقاق الحكومي معلنا انه يطالب “بحكومة قوية وقادرة ومحمية سياسيا وموقفنا التقليدي هو المطالبة بحكومة وحدة وطنية او ذات تمثيل واسع وان تكون مؤلفة من سياسيين واختصاصيين”. واعتبر ان “الحديث عن حكومة حيادية هو تضييع للوقت” متسائلا “ماذا يعني حكومة حيادية في لبنان ؟ فنحن لا نؤمن بوجود حياديين في لبنان كي يتم تشكيل حكومة حيادية “. واتهم بدوره “قوى سياسية لبنانية بانها عملت على اسقاط الدولة ووضعها على حافة حرب أهلية”. وقال انه اذا اثبت التحقيق اللبناني ان إسرائيل لها علاقة بانفجار مرفأ بيروت “فان حزب الله لا يمكن ان يسكت على جريمة بهذا الحجم”.