إنتقلت الأولوية بين ليلة وضحاها من الاستقالة من مجلس النواب والانتخابات النيابية المبكرة إلى استقالة الحكومة وما يستتبعها من مسار تكليف وتأليف، وكأنّ هناك من قرر التضحية بالحكومة فجأة في محاولة لفرملة مفاعيل زلزال 4 آب، أي أن تقف عند حدود الحكومة وألّا تلامس حدود البرلمان في ظل خشية هذا الفريق من انتخابات نيابية مبكرة قد تجرّ إلى انتخابات رئاسية مبكرة، وتؤدي إلى قلب النتائج النيابية من ضفة إلى أخرى بسبب الغضب الشعبي العارم الذي يحمِّل السلطة مسؤولية الأزمة الحالية ومتفرعاتها.
ومجرد التضحية بالحكومة عوضاً من مجلس النواب يعني انّ الفريق المُمسك بالأكثرية أيقنَ خسارته واستحالة ان يواصل سياسة «business as usual» وكأنّ شيئاً لم يحدث مع الانفجار الذي هَزّ عواصم العالم التي كسرت حظرها وحصارها على بيروت، ولكنّ استقالة الحكومة لا تعني انّ مسار التكليف ومن ثم التأليف سيكون سهلاً وميسّراً لسببين أساسيين:
ـ السبب الأول، كون الفريق الذي شكّل الحاضنة للحكومة المستقيلة لن يقبل بحكومة لا يمسك بمفاصلها الأساسية على رغم حاجته إلى الإسراع في تشكيلها، خصوصاً انّ الدخول الدولي على خط الأزمة اللبنانية يزيد من هواجسه وقلقه.
– السبب الثاني، كون الفريق المعارض لن يقبل بتغطية حكومة تكون نسخة طبق الأصل عن الحكومة المستقيلة، ما يعني انّ مصيرها لن يختلف عن مصير هذه الحكومة، وبالتالي لن يجد نفسه معنيّاً بتغطية فريق السلطة.
ولكن هل يمكن ان ينجح التدخل الدولي، وتحديداً الفرنسي المفوّض دولياً، بتقريب المسافة بين الفريقين من أجل الوصول إلى حكومة لا تثير قلق الفريق الأوّل وتُرضي الفريق الثاني؟ وهل سينجح الفرنسي في تسريع مسار التكليف والتأليف كما دعت وزارة الخارجية الفرنسية؟ وما هو سقف التنازلات الذي يقبل به فريق السلطة، مقابل سقف المطالب الذي يضعه الفريق المعارض؟ وكيف سيتعامل العهد مع واقع انّ مرشّحه لرئاسة الحكومة لن يدخل نادي رؤساء الحكومات، وانه مضطر للتعاون مجدداً مع الرئيس سعد الحريري الذي تتوجّه الأنظار في اتجاهه، ليس فقط كرئيس حكومة محتمل، إنما لكونه يشكّل المعبر الى السرايا الحكومية؟
وقد رصدت في الساعات الأخيرة محاولة لتسويق فكرة العودة إلى الحكومة السياسية بحجّة انّ حكومة التكنوقراط فشلت فشلاً ذريعاً، وانّ حِدة الأزمة تستدعي حكومة سياسية لا تكنوقراطية. ولكن هذا النوع من الحكومات ما زال يواجه رفضاً مطلقاً لدى المعارضة التي تعتبر أنّ طبيعة المرحلة تتطلّب حكومة اختصاصيين مستقلين وليس على شاكلة الحكومة الحالية.
وقد بَدا واضحاً أمس انّ رئيس الجمهورية لن يدعو إلى استشارات تكليف، على غرار المرة السابقة، قبل ان تبلغ الاستشارات السياسية مداها، وهذه الاستشارات كانت قد بدأت إثر الاستقالة، حيث فتحت خطوط التواصل، ليس بين القوى السياسية حصراً، إنما أيضاً مع الفرنسيين وغيرهم، في محاولة لتقصير مرحلة الفراغ التي تفاقم الوضع المالي تأزّماً.
على وقع استمرار الغضب الشعبي، انطلقت أمس مشاورات سياسية على كل المستويات تمهيداً للإستشارات النيابية الملزمة التي سيدعو رئيس الجمهورية إليها لتسمية رئيس حكومة جديد، في وقتٍ لم تجف بعد دماء الشهداء ودموع أمهاتهم التي غَطّت أرض بيروت وشوارعها، جرّاء الانفجار الذي دمّر المرفأ ومحيطه. وقد دفعت استقالة حكومة الرئيس حسان دياب كلّ الاتجاهات السياسية الى البحث في شكل الحكومة المُقبلة.
وقد اعترفت مصادر مطلعة على اجواء المشاورات الجارية بأنّ مهمة التكليف والتأليف الحكوميين صعبة، وانّ المعنيين ما زالوا في طور البحث في اسم الشخصية التي ستتولى تأليف الحكومة العتيدة.
وقالت مصادر مطلعة على اجواء بعبدا «انّ البحث في الملف الحكومي بدأ ضمن إطار المشاورات الجانبية بين كل القوى، ولا نستطيع تحديد المدة التي ستستغرقها تمهيداً لتحديد موعد استشارات التكليف، ولكن رئيس الجمهورية يفضّل تشكيل الحكومة في أسرع وقت، وهذا مرهون بموقف الكتل النيابية والقوى السياسية والشخص الذي سيكلّف تشكيل الحكومة».
وأكدت «ضرورة» إجراء المشاورات قبل الاستشارات الملزمة لكي يحدد رؤساء الكتل النيابية خياراتهم، معتبرة انه «من المبكر الحديث عن رئيس الحكومة المقبل».
وحول حديث البعض عن وجود «مانع» يحول دون التعاون مع الرئيس سعد الحريري في رئاسة الحكومة، لفتت المصادر الى «أنّ الرئيس عون يحترم الدستور وينتظر نتائج الاستشارات النيابية».
وحول الكلام عن أنّ عون موافق على تكليف السفير السابق نواف سلام تأليف الحكومة، أشارت المصادر إلى «أنّ الجو العام يتجه نحو تشكيل حكومة وحدة وطنية، لكنّ تحديد نوعية الحكومة ودورها ومهمتها لا يمكن أن يحسم إلّا بعد جَس نبض الكتل النيابية».
وعمّا اذا كان اسم نواف سلام قد طُرح خلال محادثات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مع عون، أوضحت المصادر «أنّ الجانبين شددا على ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية، ولكن لم تُطرح أسماء خلال المحادثات».
في غضون ذلك، أكدت مصادر تيار «المستقبل» انّ «الهَم الوحيد للحريري حالياً هو مساعدة أهالي بيروت على تجاوز تداعيات الكارثة التي أصابت العاصمة جرّاء انفجار المرفأ»، لافتة الى «انّ هذا الملف يشكل أولوية لديه في هذه المرحلة انطلاقاً من كونه رئيس تيار «المستقبل» ونائباً عن بيروت».
وفيما فضّلت مصادر «المستقبل» عدم التعليق على احتمال تكليف الحريري تشكيل الحكومة الجديدة، موضحة أنّ «هناك توجهاً لتجنّب الخوض في هذه المسألة»، أبلغت أوساط قريبة من «بيت الوسط» الى «الجمهورية» انها «لا تجد انّ هناك أي مصلحة للحريري في تولّي رئاسة الحكومة وسط الظروف السائدة»، معتبرة انّ «ما من جدوى لعودته الى السرايا الحكومية، ولا فرصة للإنقاذ الحقيقي ما لم تتغيّر كل المنهجية المعتمدة في تشكيل الحكومات وفي التعامل مع الازمات التي يمرّ فيها لبنان».
وأكدت مصادر «بيت الوسط» لـ«الجمهورية» أنّه «حتى الآن لا حديث عن الحكومة في انتظار الاستشارات النيابية».
الى ذلك، قالت مصادر تيار «المستقبل» لـ«الجمهورية»: «هناك تفاصيل مهمة حول الحكومة، ممّن ستتألف؟ وفي أي ملفات ستغوص؟…»، مؤكدةً «أننا سنؤيّد أي حكومة لديها بَشائر قبول لدى المجتمع الدولي والواقع اللبناني».
وعلى صعيد موقف «القوات اللبنانية»، قالت مصادرها لـ«الجمهورية» انّ تكتل «الجمهورية القوية» يجتمع اليوم من أجل تحديد معالم المرحلة الجديدة، في ظل إصراره على تقصير ولاية مجلس النواب وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، لأنه لا يمكن تحقيق الإصلاحات المطلوبة ونقل لبنان إلى شاطئ الأمان في ظل الأكثرية القائمة. وبالتالي، قبل كَفّ يَد هذا الفريق عن السلطة لا أمل في إصلاح ولا تغيير.
وأضافت هذه المصادر انّ «كلّ الكلام عن حكومة وحدة وطنية وأقطاب وسياسيين هو مجرّد تأليف وفَبركة مطابخ فريق سياسي معيّن يريد أخذ الأمور في هذا المنحى والاتجاه. لكن هذا التوجّه غير مطروح إطلاقاً، ولا يقبل به أحد في الشارع، فبتنا في زمنٍ آخر».
وفي إطار الحركة الدولية في اتجاه لبنان، يصل وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الادنى ديفيد هيل الى لبنان بعد ظهر غد الخميس، في زيارة رسمية تمتد ليومين.
وفي المعلومات انّ هيل يبدأ محادثاته الرسمية بلقاء عون قبل ظهر الجمعة، قبل ان يجول على كلّ من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب، ثم يزور الحريري في «بيت الوسط» ويتناول طعام الغداء الى مائدته.
وعلمت «الجمهورية» انّ هيل سيلتقي، إثر وصوله، عدداً من القيادات السياسية ورؤساء الأحزاب، ومن بينهم رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، ورئيس حزب الكتائب اللبنانية سامي الجميّل، فرئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، ورئيس «حركة الاستقلال» النائب ميشال معوض، إضافة الى عدد من الشخصيات السياسية والإجتماعية.
وفي المعلومات انّ هيل لن يقدم أي طرح يناقض مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل التي تتناول شكل الحكومة المقبلة، وان كانت بلاده تؤكد أهمية تأليف حكومة مستقلة.
وكشفت المصادر انّه سيتناول في زيارته مجمل التطورات، وسيضع امكانات بلاده في تصّرف الفريق المكلف التحقيقات في مرفأ بيروت والمنطقة التي تضررت بفِعل الإنفجار، وحصيلة ما يسمّيه «النكبة» التي حلّت بالعاصمة اللبنانية وأهاليها ومرفق بأهمية مرفأ بيروت.
وقالت مصادر مطلعة على اجواء بعبدا لـ»الجمهورية» انّ تحديد موعد لقاء عون مع هيل سبقَ استقالة الحكومة، متوقعة أن تتطرّق المحادثات إلى موضوع ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل.
على صعيد آخر يصل الى بيروت في ساعات الصباح الأولى وزير خارجية المانيا هايكو ماس، للمشاركة في جنازة الموظفة في السفارة الالمانية في بيروت غابريال كوهنال رادتكي التي قضت في انفجار المرفأ.
وفي معلومات «الجمهورية» انّ المسؤول الالماني لن يلتقي ايّاً من المسؤولين الرسميين ما عدا رئيس الجمهورية، وسيعود الى بلاده عصراً بعد لقاءات محدودة نظّمتها السفارة الالمانية وتتعلق بالدعم الالماني للبنان.
وكان ماس قد تحدث الى وسائل إعلام المانية عن الكارثة التي حلت ببيروت، مشدداً على اهمية ان «تقدم الحكومة على الاصلاحات التي طالب بها المجتمع الدولي»، والسعي الى «إنهاء مظاهر الفساد في لبنان، وتقديم ادارة رشيدة تخفف من معاناة اللبنانيين». ولفت الى أنّ المساعدات المالية الطارئة التي أُقرّت للبنان في مؤتمر باريس الأحد، «لن تكون مرتبطة بشروط لأنها مساعدات إغاثية»، وهي «لن تقدّم للحكومة، بل إلى المتضررين مباشرة عبر منظمات الأمم المتحدة». ولكنه أشار إلى أنّ هناك «كثيراً من المساعدات الاقتصادية الأوروبية الإضافية التي يمكن تحريرها، في حال طَبّق لبنان الإصلاحات المطلوبة». وأضاف أنّ «الإصلاحات ضرورية لكي تعود الثقة بين الشعب والحكّام، وإلّا فإنّ الأزمات ستتكرر في لبنان». ورفض الحديث من الآن عن عقوبات محتملة ضد المسؤولين اللبنانيين، وقال: «يجب منحهم الوقت لصَوغ مقاربة سياسية جديدة، قبل اتخاذ خطوات تصعيدية»
وإزاء تفجير مرفأ بيروت عَبَّر ماس عن قلقه من أن يؤدي ذلك إلى «عدم استقرار سياسي في لبنان»، مشدداً على «ضرورة عدم السماح لذلك بالحصول». وربط البعض مخاوف ألمانيا من تدهور الوضع في لبنان بمخاوفها من أزمة لجوء جديدة إلى أوروبا؛ خصوصاً أنّ لبنان يستضيف أكثر من مليون لاجئ سوري.
وأعلنت وزارة الصحة، أمس، أنّ حصيلة ضحايا الانفجار ارتفعت إلى 171 قتيلاً، فيما تراوح عدد المفقودين بين 30 و40.
وقال وزير الصحة حمد حسن، خلال اجتماع مع مسؤول الطوارئ في منظمة الصحة العالمية ريك برينن، إنّ نحو 1500 جريح في حاجة لعلاجات دقيقة خاصة، علماً أنّ 120 جريحاً لا يزالون في العناية الفائقة.
على صعيد التحقيقات، طلبت النيابة العامة التمييزية في لبنان إيداعها الموقوفين بانفجار بيروت لكي يتم إحالتهم الى قاضي التحقيق العسكري الأول لإصدار مذكرات توقيف، في انتظار تعيين محقق عدلي يضع يده على الملف، على أن تتابع التحقيق الأولي مع بقية الأشخاص المشتبه فيهم والشهود، وإحالة الأوراق تباعاً الى المحقق العدلي.