لعل انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية في مقابل الدولار الاميركي، المستمر منذ فترة والى مدة زمنية غير منظورة حاليا، دفع المؤسسات العالمية، ووسائل الاعلام، الى تسليط الضوء على لبنان. فبعدما نشرت صحيفة “الدايلي تلغراف” قبل يومين تحقيقاً بعنوان “لبنان يوشك على الانهيار الاقتصادي مع توقف محادثات الانقاذ”، وقبلها صحيفة “الموند” تقريرا بعنوان “لبنان ينزلق الى الهاوية”، نقل أمس عن تقرير لـ “بنك اوف اميركا” توقع ان يلامس سعر صرف الدولار الخمسين الف ليرة اذا تعثرت مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي.
“النهار” التي تتابع الملف ليس من باب التخويف، بل من باب الدفع في اتجاه البحث عن حلول، وبعدما اطلقت نداء”صحة اللبنانيين في خطر” في 17 حزيران، قبل اعلان المستشفيات التوقف عن استقبال الا الحالات الطارئة، تضيء اليوم على تقريرين لوكالة “رويترز”، يظهران واقعاً مأسوياً، لحض المسؤولين على الاسراع في توحيد الرؤى والخطط للانقاذ المالي.
تتفرّس عيناً عامر في جريدة ورقية عن بعد التقطت صوراً لقطع من اللحم والدجاج، لكن الصورة بالنسبة إليه ليست واقعاً ولن تساعده حتى على استنشاق رائحة ما تحويه. يستدين عامر الدهن ربطة الخبز التي ارتفع سعرها من 1500 ليرة إلى 2000 ليرة، ويغازل ابن مدينة طرابلس صور اللحم كقطعة أصبحت نادرة ليحتفظ بها في ذاكرته أو كتحفة في متحف آثار، إذ ليس متاحاً له ولعائلته التلاحم معها بعد اليوم في ظل أسوأ أزمة اجتماعية ومالية يمر بها لبنان.
يكابد عامر (55 عاما) أوجاعاً مزمنة ويحمل أدوية عدة بين يديه في حي الشعراني أحد أكثر الأحياء فقراً في مدينة طرابلس.
ومتندرا على شهور قليلة سابقة، يشرح لفريق “رويترز” حالة العجز المعيشي التي بلغتها عائلته مستعيدا الذاكرة القريبة قبل شهرين قائلاً: “آخر مرة اشترينا لحمة كان في شهر رمضان… لم نعد نشتري ولا لحمة ولا دجاجاً، صرنا نشاهدهم بالمجلات والجريدة ونستحليهم”.
ولعامر الذي يتكئ على عصاه ويكشف بعد كل سؤال عن عملية في ظهره وتقرحات أصابت قدميه بسبب مرض السكري أربعة أولاد يعيشون في منزل يحتاج إلى ترميم. ويقول” تغيرت حياتنا وأصبحنا على باب الله الكريم… فالحياة صارت صعبة كثيرا، والدولة عاجزة عن أي حل ولا تعمل شيء، تتفرج على العالم والناس وهم يعانون الأمرين”.
وفقد عشرات الآلاف أعمالهم أو جزءاً من دخلهم مع إغلاق معظم المحال التجارية أبوابها وموجة الغلاء غير المسبوقة في بلد يكاد يكون خالياً من الموارد الأولية ويستورد معظم منتجاته بالدولار من الخارج.
ووصف بوجار هوكسا من منظمة كير الدولية في لبنان ما تمر به البلاد بأنه “أزمة إنسانية” وحث المجتمع الدولي على التدخل وقال لـ”رويترز”: “نتحدث عن مئات الآلاف من الناس الذين هم على حافة الهاوية”.
ويروي عمر الحكيم الذي يعمل حارساً في ورشة بناء في حي القبة أنه مع أولاده الستة يعيشون في غرفة واحدة براتب 600 ألف ليرة أي ما بات يوازي اليوم 60 دولاراً شهريا فقط. وفي اشارة الى أحد أولاده النائم على الأرض، يقول الحكيم إن أبناءه عاطلون عن العمل وتراوح أعمارهم بين 11 و22 عاماً.
ويشكو عمر من ارتفاع سعر ربطة الخبز في لبنان من 1500 إلى 2000 ليرة ويشير إلى أن عائلته تحتاج يومياً الى أربع أو خمس ربطات.
ويلجأ فقراء طرابلس إلى الاستدانة من محال صغيرة في الأحياء القريبة، لكن هذه المحال الصغيرة أصبحت بدورها تعاني على جبهتين بعد أن تراكمت ديون الزبائن الذين لا يستطيعون السداد.
وتقف كوكب عبد الرحيم وهي مالكة متجر صغير في الثلاثين من عمرها لتشكو وضعاً مأسوياً بلغته الحركة التجارية في متجرها قائلة: “حالة الدين عندي أصبحت يُرثى لها، مثلاً كانت العالم تشتغل وتقبض وتدفع صار يتراكم عليهم الدين. لم يعد أحد يشتغل ويقبض لكي يدفع”.
وفي الوقت الذي يغذي الفقر المتسارع مشاعر الغضب واليأس والخوف من انفجار اجتماعي، يبدو أن جهود النخبة الحاكمة في لبنان لإنقاذ البلاد من انهيار مالي بمساعدة صندوق النقد الدولي تسير في الاتجاه العكسي.
وفي لبنان الذي اشتهر وسط بلدان الشرق الأوسط بأنه سويسرا الشرق، بات الفقر ينذر بعواقب وخيمة يتبدى في صور مواطنين يستجدون في الشوارع أو ينبشون القمامة بحثاً عن شيء يصلح للأكل أو يقايضون أثاث بيوتهم بالطعام.
لجأت سيدة لبنانية إلى مقايضة السكر والحليب والصابون بفستان طفلة، وسعت أخرى الى الحصول على بضائع معلبة مقابل معدات رياضية.
والآن تقدم سيدة تبلغ من العمر 65 عاما خدماتها في الحياكة مقابل الطعام، لأن زبائنها لم يعودوا قادرين على دفع المال لها.
وأصبحت المقايضة عبر موقع “فايسبوك” هي الملاذ الأخير لبعض اللبنانيين بعدما أدى الانهيار المالي بالأسعار الى ان ترتفع بشكل حاد هذه السنة.
وقالت سهام، وهي أم في السابعة والعشرين من عمرها كانت تعرض جهازاً لغسل زجاجات رضيعها مقابل الطعام: “شغلة كتير حلوة للناس اللي مثلا بحاجة لأغراض ما قادرة تشتريها بالوضع اللي البلد اللي نحنا فيه الدنيا هلا”.
واضطر الكثير من اللبنانيين إلى اللجوء للجمعيات الخيرية أو المبادرات الخاصة من أجل العيش والبقاء، وقت تواجه البلاد أزمة على نطاق غير مسبوق.
واجتذبت مجموعة “لبنان يقايض” على “فايسبوك” والتي أسسها حسن حسنا أكثر من 16 ألف عضو خلال شهر تقريباً، ويعتمد عليها الناس في تأمين الطعام والدواء اللذين لم يعودوا قادرين على تحمل تكلفتهما.
وقال حسنا إنه استطاع مع مجموعة من أصدقائه أن يقدموا المساعدة لبعض العائلات في فترة عيد الميلاد. لكن تراجع الموارد دفع الى فكرة المقايضة. وقال: “في بعض الأشخاص عم ياخدوا الموضوع بطريقة سلبية: شوف لوين وصلوا اللبنانيين؟” لكنه استدرك قائلاً أنه لا ينظر إلى الوضع بهذه الطريقة.