لم يكن اتساع التحركات الاحتجاجية والاعتصامات والتظاهرات وعمليات قطع الطرق أمراً مفاجئاً أو مستغرباً وسط تفاقم كل المعطيات السلبية المنذرة بازدياد الاختناقات المالية والاقتصادية والمالية، ولو سجّل “دولار السوق السوداء” أمس انخفاضاً مباغتاً في حدود أكثر من ألفي ليرة متراجعاً الى سقف الـ8400 ليرة. فهذا التراجع بدا بمثابة ضربة سيف في المياه نظراً الى استمرار الارتفاع الخيالي في سعر صرف الدولار الذي فقد لدى معظم الصرافين عشية عطلة نهاية الأسبوع. كما أن انعدام الثقة بإمكان استمرار تراجع السعر لم يترك أي تأثير ايجابي، خصوصاً أن معالم المشهد السياسي اتجهت في الأيام الأخيرة نحو مزيد من الغموض والمخاوف من احتدامات سياسية من شأنها ان تخلف تداعيات اضافية ضاغطة على أوضاع الناس.
وبدا واضحاً أن حكومة الرئيس حسان دياب قد استشعرت بقوة خطورة تصاعدية تتهدّدها بعدما ثبت أن معظم مؤشرات الدفع نحو تغييرها جاءت من “أهل البيت” الحكومي وليس من المعارضين. ولذا بدأت الحكومة هجوماً معاكساً، سواء كلامياً من خلال “الخطب” المعدة سلفاً لرئيسها والمتضمنة خطاً بيانياً من الحملات النمطية على المعارضين، أم من خلال تكثيف الاجتماعات الماراتونية في السرايا وتنويع محاورها كما حصل أمس في عقد اجتماع ذي طابع أمني، تلاه اجتماع مالي. وتقول الأوساط المعنية بالواقع الحكومي أن أحداً لا يتملكه وهم إسقاط الحكومة في اللحظة الحالية، قبل توافر البديل المضمون من الحكومة الحالية ولكن رحلة هذه الحكومة وصلت الى المرحلة الأشد صعوبة وخطورة لأنها ستكابد بعناء شديد العجز عن تبريد الاحتدامات المتصاعدة في الشارع، فيما تدور المعالجات للأزمات الخانقة الحياتية والخدماتية والمالية في دائرة مقفلة.
ولم يكن ينقص المشهد المشدود والمأزوم سوى أنباء صادمة عن انتحار مواطنين في بيروت وجدرا بفعل معاناة كل منهما أوضاعاً حياتية ومادية خانقة، الأمر الذي أدى الى إشعال موجات متعاقبة من التعبير عن الغضب الشعبي والتعاطف مع الضحيتين علي محمد الهق (61 سنة) الذي أقدم على الانتحار بإطلاق النار على نفسه في شارع الحمراء ببيروت بعدما ترك لافتة كتب فيها: “أنا مش كافر”، وسامر مصطفى حبلي ابن مدينة صيدا الذي انتحر بشنق نفسه في جدرا. وأثار حادث الانتحار في شارع الحمراء غضب الشارع، إذ تجمهر مواطنون في المكان، وعمد عدد منهم الى افتراش الأرض وقطع الطريق احتجاجاً على الأوضاع المزرية، رافعين لافتات تحمّل المسؤولين تبعة حادث الانتحار. كما تجدّدت التحركات الاحتجاجية مساءً في المكان، اذ قطع متظاهرون الطريق ووضع آخرون الزهور حيث سقط الهق بعد اطلاقه الرصاص على نفسه.
وعلّق البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي على الحادث: “يؤلمنا ويؤسفنا أن يكون قد أقدم شابان على الانتحار بسبب الوضع المعيشي المزري. إن خطوة كهذه تعتبر وصمة عار في جبين لبنان. وإن ما كتبه أحدهما “أنا لست بكافر إنما الجوع كافر”، يشكّل مسؤولية في أعناق كل اللبنانيين، مسؤولين وغير مسؤولين. وهذا يعزّز الحاجة الى شبكة تضامن اجتماعي بين الأفراد والمؤسسات لمواجهة الجوع والفقر. فلا يجب أن يشعر أي إنسان بأنه متروك لا من السماء ولا من الارض”
وتواصلت التحركات الاحتجاجية للمواطنين تصاعدياً في موازاة التدهور المعيشي المريع وتهاوي القيمة الشرائية لليرة اللبنانية، والارتفاع الجنوني لأسعار السلع الغذائية والأساسية، في غياب مريب للمعالجات العاجلة المطلوبة.
وصدر عن وزير الداخلية بيان أسف فيه لـ”ما حصل أمام مدخل الوزارة، وخصوصاً العبارات المسيئة التي طاولت فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون”، معتبراً “أن أحقية المطالب لا تبرر الشعارات المسيئة التي أطلقت”.
وحصل حادث مريب مساءً اذ أعلن الناشط المحامي واصف الحركة تعرّضه لضرب مبرح على أيدي أربعة شبان اثر خروجه من مقابلة إذاعية في “صوت لبنان” بالأشرفية.
وقال الحركة الذي بدا الدم يسيل على وجهه أنه متوجه الى مستشفى اوتيل ديو في في الأشرفية لتلقي العلاج.
وبرز موقف جديد لافت للمنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان، يان كوبيتش، الذي كتب عبر “تويتر”: “لا تراهنوا على أن صبر اللبنانيين بلا حدود، يكفيهم ما يعانونه من غياب تام للإصلاح بداية من قطاع الكهرباء ومروراً بغياب الرؤية الموحدة والجهد الحقيقي لمواجهة الانهيار ووصولاً لبؤسهم المتزايد”. وتساءل: “أي مستقبل تصنعون لهذا البلد الذي يمتاز بجماله وفرادته وشعبه الدؤوب؟”.
في غضون ذلك وغداة هجومه على السفارتين الأميركية والسعودية من غير أن يسمّيهما، وبعد استقباله سفير الصين، تابع رئيس الوزراء حسن دياب مناوراته حيال ما سمّي خيار الاتجاه نحو الشرق الذي أطلقه الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله. والتقى دياب في السرايا، وفداً وزارياً عراقياً ضمّ وزراء الزراعة والتربية والطاقة والصناعة، وجرى البحث في التبادل بين البلدين باستيراد لبنان النفط العراقي مقابل استيراد العراق المنتجات اللبنانية الصناعية والزراعية وغيرها. وقد استكمل البحث بلقاءات ثنائية مع الوزراء المعنيين كل بحسب اختصاصه. وأعلن الوفد العراقي من السرايا أنه ناقش مع الجانب الحكومي موضوع الطاقة “خصوصاً أن العراق من البلدان المصدّرة للنفط، كما ناقشنا كيفية الإستفادة من تجربة لبنان في الحدّ من وباء كورونا وإمكانية التعاون المشترك بين البلدين، خصوصاً أنّ العراق يعيش حالياً وضعاً صعباً”.
وفي هذا المناخ، أطلقت نقابات المؤسسات السياحية في لبنان صرخة تحذير ونفّذت وقفة تضامن للنقابات والمؤسسات السياحية مطالبة بانعاش القطاع السياحي وإلا فالعصيان المدني السياحي. وحذّر اتحاد نقابات السياحة من أنه” إذا لم تقرّ الخطة الحكومية قبل 3 آب فسنعلن إقفال كل المؤسسات السياحية بدءاً من 1 ايلول على كامل الأراضي اللبنانية والتوقف عن دفع الالتزامات”. وقال رئيس اتحاد النقابات السياحية بيار الأشقر في مؤتمر عقد تحت عنوان “هل يصبح لبنان من دون سياحة؟ “نحن أقوياء في وحدتنا واليوم نشهد انهيارات جماعية وافلاسات جماعية، لم الانتظار؟ تأجيل ثم تأجيل ولا حياة لمن تنادي”. وأضاف: “أفقدونا العمود الفقري للسياحة والمستثمرين… كلنا يحتضر وأهل السلطة يشاركون في الجنازة ويعتبرون أنهم أدوا واجبهم، ونحن نعاني الأمَرّين”. وخاطبهم قائلاً: “أنتم أهل السياسة شوّهتم صورة لبنان، ماذا سيكتب عنكم التاريخ؟ لقد أسقطتم قطاعاً نشأ منذ قرون. نحن ثائرون على حكّامنا لأنهم تقاسموا المحاور والمراكز والتعيينات”. وختم: أين الانجازات الملموسة؟ أين الاصلاح؟ أين الأموال المنهوبة؟ أين أصبح صرف الليرة؟ بادروا أو ارحلوا ليبقى لبنان”.