أصرّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على عقد «اللقاء الوطني» الذي دعا إليه بمن حضر، وكان له ما أراد، فحضر من المدعوين من حضر، وكاد ان يكون الحاضرون فيه من لون واحد، لولا حضور الرئيس ميشال سليمان ورئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب تيمور جنبلاط ممثلاً والده رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط. وانتهى اللقاء الى بيان لم يحمل جديداً، فحذّر من الفتنة ودعا الى معالجة الازمة الاقتصادية والمالية وتطوير النظام السياسي، وهو ما مَلّ اللبنانيون من سماعه يومياً ولم يلمسوا اي ترجمة عملية له تحتاجها البلاد اكثر من اي وقت مضى للخروج من الانهيار.
ولوحِظ انّ هذا اللقاء انعقد في ظل افق اقليمي ودولي مقفل إزاء لبنان، في الوقت الذي يترقّب ما ستكون عليه تداعيات «قانون قيصر» ضد سوريا، فيما برز موقف اماراتي لافت، حيث أعلن وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش أنّ «لبنان يدفع ثمن تدهور العلاقات مع دول الخليج العربية، وهو يكافح لاجتياز أزمة اقتصادية عميقة». وقال في حديثٍ لقناة «CNBC» إنّ «ما يشهده لبنان من انهيار اقتصادي مُقلق للغاية، لكن الإمارات لن تفكّر في تقديم الدعم المالي إلّا بالتنسيق مع الدول الأخرى». واضاف: «إذا شهدنا بعض أصدقائنا والقوى الكبرى المهتمة بلبنان يعملون على خطة فسنفكّر في الأمر. لكن حتى الآن ما نراه هنا حقاً تدهور لعلاقات لبنان العربية وعلاقاته الخليجية على مدار السنوات العشر الماضية، ولبنان يدفع جزئيّاً ثمن ذلك الآن». وأشار الى «أنّنا شهدنا تراكم المشكلات في لبنان، وشهدنا أيضاً إملاء للخطاب السياسي من جانب «حزب الله» الذي يملك فعلياً جيشاً داخل الدولة». ولفت الى أنّ «الإمارات حذّرت بيروت مراراً من تدهور العلاقات مع الخليج، وأنّ لبنان إذا أحرق جسوره فسيكون من الصعب عليه جداً استخدام الرصيد الهائل من حسن النيّة والرصيد الهائل من الدعم المالي الذي يحتاج إليه».
وأكد عون، في مستهلّ اللقاء، أنّ «تحصين السلم الأهلي مسؤولية الجميع وليس على همّة فرد واحد مهما علت مسؤولياته، كما انه ليس على مسؤولية حزب واحد ولا طرف واحد». وقال: «ما جرى في الشارع في الأسابيع الأخيرة، في طرابلس وبيروت، يجب أن يكون إنذاراً لنا جميعاً لتحسُّس الأخطار الأمنية التي قرعت أبواب الفتنة من باب المطالب الاجتماعية». وشدّد على أنّ «إطفاء النار ليس بسهولة إشعالها، خصوصاً إذا ما خرجت عن السيطرة، وهذه مسؤوليتنا جميعاً، الحاضرين والمتغيّبين».
ثمّ تحدّث دياب، وقال: «إنّ البلد ليس بخير. لكن العلاج مسؤولية وطنية، ليس فقط مسؤولية حكومة جاءت على أنقاض الأزمة»، ورأى أنّ «اللبنانيين لا يتوقعون من هذا اللقاء نتائج مثمرة. ولم يعد يهمهم ما نقول، بل فقط ماذا سنفعل»، ودعا إلى أن «يكون هذا اللقاء بداية عمل وطني واسع، تنبثق عنه لجنة تتابع الاتصالات تحت قبّة مجلس النواب».
وركّز بري على أهمية الوضع الاقتصادي، مشيراً الى أنه لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة، مجدّداً مطالبته بتأليف لجنة طوارئ مالية لمعالجة الاوضاع. ولفت الى انّ مجموعة الدعم الدولية للبنان كانت قد أقرّت في نيسان 2018 دعماً للبنان بقيمة 11 مليار دولار شرط اقامة الاصلاحات وكذلك مؤتمر «سيدر»، لكن لم ينفذ أي شيء من هذه الاصلاحات، ووصلنا الى صندوق النقد الدولي الذي يطالب بدوره بها. واعتبر بري انه في المرحلة المقبلة يجب ان تركز الحكومة على الاصلاحات، وأيّد ما قاله باسيل حول ضرورة الوصول الى الدولة المدنية التي يعتبر انها ليست ضد الدستور بل يمكن من خلال دستور «الطائف» تطوير الأمور وصولاً الى هذه الدولة.
وأيّد بري ما قاله عون حول الاستقرار والسلم الاهلي.
وبعد اللقاء، صدر بيان توافَق عليه الجميع باستثناء سليمان، الذي تحفّظ عليه. وأكدوا فيه أنّ «الاستقرار الأمني هو أساس لا بل شرط للاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمالي والنقدي. أمّا التصدي للفتنة، والشحن الطائفي والمذهبي، تحضيراً للفوضى فهو مسؤولية جماعية تتشارَك فيها جميع عناصر المجتمع ومكوناته السياسية». ودعوا الى «التأسيس على هذا اللقاء للانطلاق من بحث توافقي، من دون عقد أو محرمات، فنسعى معاً الى توحيد المواقف أو تقاربنا في شأنها، أقلّه حول المسائل الكيانية والوجودية.
ولاحظت مصادر متابعة ان لقاء بعبدا قد انتهى غرار ما بدأ بمواقف سياسية لا تقدِّم ولا تؤخّر، وبعيدة كل البعد عن هواجس الناس والتحديات المالية المطروحة، فيما السلم الأهلي غير مُهدد هذه المرة بفعل الانقسام السياسي، إنما بسبب الغليان الاجتماعي الناتج عن التدهور المعيشي وعدم القدرة على لجم ارتفاع الدولار، وليس باستطاعة اي حوار ان يهدئ من روع الناس وغضبهم سوى في حال لمسوا تَحسناً في الوضع المالي، وهذا التحسن غير ممكن من دون رزمة إصلاحات تبدأ الحكومة بتنفيذها فوراً. فلا حاجة لاجتماعات ولقاءات ولجان وحوارات، إنما كل الحاجة إلى قرارات وخطوات ومبادرات، ولا مؤشرات لغاية اللحظة انّ السلطة في وارد تغيير نهجها المرتكز على الوعود ورمي المسؤوليات على غيرها، وفي حال واصلت هذا النهج فيعني انه على لبنان السلام.
وقالت المصادر نفسها ان دياب كرر ما تردده الناس بأنها لا تريد خطابات ومواقف، إنما خطوات عملية تفرمل الانهيار الحاصل، ولكن ما الذي يمنعه من اتخاذ هذه الخطوات؟ فهو رئيس الحكومة، والناس تنتظر من السلطة التنفيذية ان تبادر، فماذا تنتظر هذه السلطة لتبادر قبل السقوط في الانهيار الشامل، لا سمح الله؟
وفي تقييم للقاء بعبدا، لفتت مصادر مطلعة على أجواء قصر بعبدا عبر «الجمهورية» إلى «أن رئيس الجمهورية نجح في فتح أبواب الحوار حول كثير من الملفات السياسية والاقتصادية والوطنية». وقالت انه والى إعادة التأكيد على الثوابت الوطنية التي تم التأكيد عليها مجدداً في البنود الأربعة من البيان الختامي، والتي لا يختلف حولها المشاركون والمقاطعون في آن، لا بد من التوقف امام مضمون البند الخامس من البيان الذي جعل اللقاء مناسبة توحي بإمكان الافادة منه ليتحول قاعدة ينطلق منها حوار حول كثير من الخيارات المقبلة التي أشار اليها».
وسجلت مصادر سياسية 4 ملاحظات بارزة خلال «اللقاء الوطني» في بعبدا:
١- تطابق بين كلمة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل والبيان الختامي لناحية التمسّك باتفاق الطائف وتطويره بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في وثيقة الوفاق الوطني.
٢- الاقرار بضرورة الانتقال إلى الدولة المدنية، وكان التوافق تاماً حول هذه النقطة مع بري كما كان مع «الحزب التقدمي الاشتراكي».
٣- تجوز المحرمات بطرح البحث في الاستراتيجية الدفاعية وموضوع الحدود البرية والبحرية.
٤- حسم ما نمي عن خلافات بين مسؤولي «التيار الوطني الحر» في شأن مقاربة الخسائر المالية، حيث اكد باسيل انّ المكاشفة الصريحة لا بد منها اليوم قبل الغد لكن هذا لا يعني التعاطي مع الديون والخسائر وكأنها شركة يُراد تصفيتها، ولذلك اقترح باسيل أن تتم المكاشفة بشفافية تامة من دون تسكير الخسائر على أن يتم تقسيطها على مدى ٧ سنوات لأنّ الدولة ليست مفلسة، وهي تملك من الأصول ما يسمح لها بإعادة تكوين الثروة النقدية، ولا يُعفى من المسؤولية مصرف لبنان المركزي والمصارف التي عليها ان تساهم في تغطية الخسائر بنسبة ما يترتّب عليها. امّا المودعون فلا يجوز تحميلهم أي خسائر، إذ يكفي ما أصابهم من انخفاض قيمة العملة الوطنية.
الى ذلك نقل زوار الرئيس سعد الحريري امس عنه قوله «انّ لقاء قصر بعبدا هو لقاء السيلفي»، مشيراً الى «انّ الحاضرين الذين هم في معظمهم من لون واحد كانوا يتحاورون مع أنفسهم». واكد انه لم يعد وارداً لديه «تقديم اي تنازلات من جديد او العودة إلى أي تسوية ومُسايرة مع العهد»، لافتاً الى «انّ تيار المستقبل دفع اثماناً باهظة لإنجاح التسوية في السابق من أجل المصلحة الوطنية العليا، «الّا اننا اصطدمنا في نهاية المطاف بالحائط المسدود».
واعتبر تيار «المستقبل» في بيان أنّ «لقاء بعبدا لم يكن مع الأسف موفّقاً لا شكلاً ولا مضموناً، عدا الموقف الذي اعلنه الرئيس السابق ميشال سليمان واعتصام الرئيس نبيه بري بالصمت طوال اللقاء. أمّا البيان الذي توجه به المجتمعون الى اللبنانيين فامتلأ بالعناوين الملتبسة التي تؤسّس لفتح ملفات خلافية جديدة». وشدّد على أنّه «يجد في البيان الصادر عن لقاء بعبدا، مجموعة من الالغام السياسية والوطنية التي تستدعي المراقبة والتنبيه وتحاول، بعِلم أصحاب البيان او من دون علمهم، التغطية على هروب العهد وحكومته من التصدي للمشكلات المعيشية والاقتصادية وجَر لبنان الى حلقات جديدة من السياسات الخلافية التي تكرّس الابتعاد عن النأي بالنفس وتَتعمّد زَجّه في مواجهة قانون قيصر».
وفي هذه السياق قالت مصادر «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية» انّ موقفها الرافض المشاركة في الحوار «لم يأت عن عبث ومن فراغ، بل بفعل التجربة المرة مع حكومة منحتها «القوات» فرصة ربطاً بحاجة البلد الى الإنقاذ، ولكنها لم تلتقط هذه الفرصة إن بسبب عجزها الذاتي، أو لكون قرارها السياسي خارجها وفي يد الأكثرية المتحكّمة بمفاصل القرار، إنما النتيجة نفسها وهي استمرار التدهور المالي وغياب المعالجات المطلوبة».
وبعد قليل من انتهاء لقاء بعبدا، إلتأم مجلس الوزراء في السرايا الحكومية برئاسة دياب، ودرس جدول اعمال عادي بعد بحث في التطورات الجارية سياسياً واقتصادياً ومالياً.
وعلمت «الجمهورية» انّ وزيرة العدل طلبت من رئيس الحكومة توجيه كتاب الى مجلس النواب والطلب فيه صلاحيات استثنائية للحكومة والسماح لها بالتشريع لمدة 4 اشهر، وقبل ان يفتح هذا الامر للنقاش ردّ عليها وزير الزراعة عباس مرتضى فوراً، فقال: «هذا طلب غير دستوري لأنّ المجلس النيابي يقوم بواجباته وهو يعقد جلسات دورية ولا تنسوا انه عقد جلستين حتى في ظل وباء كورونا على رغم من المخاطر الصحية، لذلك انا ارى ان لا داعي لهذا الطلب وليس هناك تقصير من المجلس حتى يولي هذه الصلاحيات للحكومة».
وأبدت مصادر وزارية خشيتها من أن يكون كلام رئيس الحكومة حول ازمة الدولار في بداية جلسة مجلس الوزراء هو تَنصّل من المسؤولية بارتفاع سعر الصرف بعدما استنفذت كل المحاولات خصوصاً انه استهلّ الجلسة بقوله «اننا كحكومة لا دخل لنا بما يجري، ونحن نقوم بعملنا بنجاح لكنّ سعر صرف الدولار ليس من مسؤوليتنا ولا من صلاحيتنا».
وكان دياب طالبَ في مستهل الجلسة مصرف لبنان بأنه، إذا كان عاجزاً عن معالجة أزمة ارتفاع سعر صرف الدولار، بأن يصارحه بالأسباب وتسمية من يمنعه من ذلك، ومن يتدخّل «فلا يجوز التعامل مع هذا الأمر ببرودة وكأنّ الوضع بألف خير». وشدّد على أهمية «أن يشكل الموضوع المالي أولوية، ليس فقط للحكومة، بل أيضاً لكل مسؤول، في أي موقع»، قائلاً إنّ «المطلوب وضوح كامل في التعاطي مع هذا الأمر».
وجرى التشديد خلال الجلسة على أهمية مواكبة هذا الموضوع، مع التأكيد على أنّ هناك من يروّج لأسعار وهمية للدولار الأميركي، وأنّ الآلية المعتمدة للتسعير ما يزال معمولاً بها، والإشارة إلى أنّ مصرف لبنان سيطلق غداً المنصة الرسمية للتعامل بالدولار الأميركي لدى الصرافين.
وعلى الصعيد المالي لم تنجح كل الجهود التي بُذلت حتى الآن في كبح انهيار الليرة اللبنانية التي تواصل التدحرج الى مستويات خطيرة، باتت تهدّد المواطن بخطر المجاعة الحقيقية. وقد لامس سعر الدولار امس في السوق السوداء عتبة الـ7 آلاف ليرة. وكالعادة، لم يكن هناك سعر ثابت، لكن التداول في هذه السوق تراوح خلال النهار بين 6300 و6600 ليرة. ووصل في بعض الاحيان الى اعلى من ذلك.
في الموازاة استمرت تسعيرة الدولار لدى الصرافين على حالها بين 3850 و3900 ليرة. وأدّى استمرار انهيار سعر صرف الليرة الى بلبلة في الاسواق، حيث عمدت بعض المحال الى إقفال أبوابها بعدما تعذّر على التجار مجاراة سوق الصرف لجهة رفع الأسعار. وفي حين خشي البعض من تكبُّد خسائر فادحة وفضّل الاغلاق المؤقت، عمدَ آخرون الى رفع الاسعار قدر المستطاع لمواكبة ما يجري في سوق الصرف
الى ذلك، لفت امس البيان التصعيدي الذي خرجت به الهيئات الاقتصادية عقب اجتماع طارئ لها، حيث اعتبرت انّ «كل من يعرقل الاصلاح مُتّهَم بالخيانة الوطنية». واعتبرت «انّ البلد فعلاً في وضع مخيف، فالأوضاع تتدحرج سريعاً من سيئ الى أسوأ، ولعلّ أبرز مظاهر الانهيار هو هذا الهبوط الكبير والسريع لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار… نعم، إنّ اللبنانيين في خطر وجودي».
وطالبت الهيئات السلطة السياسية بإقرار سلّة الإصلاحات الضرورية المطلوبة، وأثنَت على «مجلس النواب ورئيسه الرئيس نبيه بري وعلى الجهود الجبارة والمخلصة التي بذلتها لجنة المال والموازنة، لا سيما لجنة تقصّي الحقائق بمشاركة مصرف لبنان والهيئات الاقتصادية وجمعية المصارف، والتي حافظت على الاصول الدستورية وحقوق اللبنانيين وأموال المودعين وأرسَت قواعد سليمة لإعادة انطلاق الاقتصاد».