على أهمية الموقف الاعتراضي للرئيس ميشال سليمان على بيان جاهز معلّب ومعدّ سلفاً يمثّل وجهة نظر أحادية، وإصراره أمام تحالف العهد العوني وقوى 8 آذار على إحياء “إعلان بعبدا”، ومن دون تقليل أهمية ورقة الثوابت الوطنية والسياسية في مواجهة النزعات والمغامرات الانقلابية على الطائف التي قدمها النائب تيمور جنبلاط باسم الحزب التقدمي الاشتراكي وكتلة “اللقاء الديموقراطي”، فإن هاتين الوقفتين البارزتين الوحيدتين من خارج الاصطفاف الأحادي الذي جمعه لقاء بعبدا أمس لم تحجبا إخفاق التحالف السلطوي في انتزاع تعويم سياسي أراده في لحظة انزلاق البلاد الى الأخطر على أيديه.
ومع أن أحداً لا يمكن أن يعارض حواراً أو لقاء يهدف الى استنفار الإرادات السياسية في مواجهة أي محاولات للعبث بالاستقرار الأمني وإثارة الفتنة الطائفية والمذهبية، فإن حصر لقاء بعبدا بهذا العنوان أفقد العهد فرصة استقطاب جميع ممثلي الشرائح الطائفية والحزبية التمثيلية الثقيلة ولم يقترن ذلك باعترافه بهذا الخطأ الجسيم بل مضى مع رئيس الوزراء في الهجوم النمطي التقليدي الذي اعتاداه من خلال تركيز الاتهامات على الخصوم والمعارضين حتى في جلسة كان يفترض أن تحترم أصول الحوار والرأي الآخر. وبذلك راكم التحالف السلطوي أمس إخفاقاً على إخفاق في الوقت الذي كان رئيس الوزراء حسان دياب نفسه يعترف في كلمته المعلنة بأن “اللبنانيين لا يتوقعون من هذا اللقاء نتائج مثمرة، وبنظر اللبنانيين، هذا اللقاء سيكون كسابقاته، وبعده سيكون كما قبله، وربما أسوأ. ولا يهتم اللبنانيون اليوم سوى بأمر واحد: كم بلغ سعر الدولار؟ أليست هذه هي الحقيقة؟”. وهو الأمر الذي لم يتأخر في الظهور بعد ساعات قليلة من اللقاءالحواري “المبتور”، اذ سجّل الدولار قفزة قياسية جديدة تجاوزت سقف الـ7400 ليرة فيما سارع دياب تكراراً الى مهاجمته مصرف لبنان وتحميله تبعة العجز عن لجمه.
ولعل ما زاد طين اللقاء المبتور بلّة أن البيان الختامي الذي تولّى تلاوته الوزير السابق سليم جريصاتي والذي تمحور على موضوع مواجهة الفتنة سرعان ما أثار التوجس والتداعيات السلبية حين انزلق في اإحدى فقراته الى “تطوير النظام” فتناول “التطوير الواجب اعتماده في نظامنا السياسي ليكون أكثر قابلية للحياة والانتاج وذلك في إطار تطبيق الدستور وتطويره لناحية سد الثغرات فيه وتنفيذ ما لم يتحقق من وثيقة الوفاق الوطني”.
إذن “اللقاء الوطني” تحوّل الى “حوار مونولوغ” في غياب كل فريق المعارضة، وانحرف عن مساره الأمني الى مواضيع حسّاسة لا تقارب إلّا بالإجماع بفتحه الباب واسعاً على حوار في تطوير النظام وسد ثغراته. وهذا ما ورد في البيان الرسمي الذي وضع عناوين مسوّدته رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، مما يعني أنه مصرّ على فتح هذا الحوار في المستقبل القريب سواء حضرت المعارضة أو لم تحضر.
وبدا البيان كأنه “إعلان بعبدا أحادي”، بعدما أحرق “إعلان بعبدا” الأصلي بمضمونه كما بلوحته التي لم تعد الى جدار القصر الجمهوري. وذهب فريق “التيار الوطني الحر” الى الترويج لنظرية أن موافقة المجتمعين في بعبدا على البيان الختامي والبند الخامس المتعلق بتطوير النظام فتح الباب للمرة الأولى منذ توقيع اتفاق الطائف على تطوير النظام السياسي والبحث في الاشكاليات الدستورية وتنفيذ ما لم يتحقق من وثيقة الوفاق الوطني. وأبرز هذا الفريق أن رئيس مجلس النواب نبيه بري سجّل تأييده لما ورد في كلمة جبران باسيل بصورة كاملة وأشاد بطرح الدولة المدنية.
أما رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي أصرّ على عقد اللقاء على رغم المقاطعة الواسعة، فقد ركّز في كلمته الافتتاحية على إنذار الشارع والأخطار الأمنية وتحدث عن أجندات خارجية مشبوهة بالتقاطع مع مكاسب سياسية لأطراف في الداخل.
ولولا المداخلة النارية للرئيس ميشال سليمان لكان الانسجام عنوان المواقف، واتهم سليمان “حزب الله” بأنه “نقض الاتفاقات، ما حال دون تنفيذ تعهدات الدولة وتسبّب بعزلتها القاتلة، وبفقدان صدقيتها وثقة الدول الصديقة وأهلنا في الانتشار والمستثمرين اللبنانيين والاجانب والمودعين والسياح، ما ساهم في تراجع العملة الوطنية”.
هنا طلب النائب محمد رعد الكلام من خارج الدور للرد على سليمان متوجهاً اليه “باسم الجنرال ميشال سليمان” وقال له: “استخدام الماضي للإيغال في ما أخطأنا به سواء عبر ما سمي إعلان بعبدا وخلفية هذا الإعلان وطريقة إصداره التي لا نزال نتحفّظ عليها حتى الآن، لا يفيدنا بشيء”.
ثم توجّه رعد الى الرئيس ميشال عون قائلاً : “ما يفيدنا اليوم هو أن نتأمل جيداً في الإعلان الذي تلوته الآن يا فخامة الرئيس ويصلح أن يكون إعلاناً باسم كل اللبنانيين لأنه يبدي حرصاً على وحدة لبنان ووحدة شعبه وحمايته من التدخلات الخارجية ومن الرهان الخاطىء والخائب للبعض على هذه التدخلات”.
أما الرئيس نبيه بري فركّز مداخلته على الوضع الاقتصادي وجدّد مطالبته باستحداث لجنة طوارئ مالية لمعالجة الأزمة، وبالإصلاحات المطلوبة والتي تأخّر تطبيقها. ولفت الى أن مجموعة الدعم الدولية للبنان كانت أقرّت في نيسان ٢٠١٨ دعماً للبنان بقيمة ١١ مليار دولار شرط إقامة الإصلاحات ومؤتمر “سيدر”، لكن لم ينفّذ شيء من هذه الاصلاحات ووصلنا الى صندوق النقد الدولي الذي يطلب بدوره منا إصلاحات. وخلص الى أن على الحكومة في المرحلة المقبلة أن تركز على الاصلاحات.
الى ذلك، عقد مجلس الوزراء عصر أمس جلسة في السرايا الحكومية برئاسة الرئيس حسان دياب. وأفيد أن أزمة الدولار حضرت بقوّة في المناقشات.
وصرحت وزيرة الاعلام منال عبد الصمد إثر إنتهاء الجلسة بأن رئيس الوزراء “أكد ان البلد يمر بأزمة كبيرة والنتائج غير إيجابية ومصرف لبنان هو المسؤول عن سعر صرف الدولار، وأشار الى انه إذا كان عاجزاً عن تسوية وضع سعر الصرف فعليه مصارحتنا”.
وقالت إن “وزير المال غازي وزني قدم مداخلة عن ضبط سعر صرف الدولار مقابل الليرة، وجرى تأكيد أهمية متابعة الموضوع في ظل نشر أرقام غير دقيقة عن سعر الصرف، ومجلس الوزراء سيطلق غداً (اليوم) المنصة الإلكترونية لدى الصرافين”.
وليلا اصدر تيار المستقبل بيانا انتقد فيه لقاء بعبدا واعتبر ان اخطر ما في البيان الصادر عنه دعوته للتأسيس على اللقاء للانطلاق من بحث توافقي من دون عقد او محرمات لمعالجة مفاصل الخلافات الكبيرة. فالبيان يعلن التاسيس لشيء ما في ظل تغييب كامل لاتفاق الطائف وعلاقات لبنان مع اشقائه العرب والإشارة عرضا الى هوية لبنان العربية بين مزدوجين وفقا لما ورد في نص البيان. وسأل المستقبل: ما هو الشيء الذي يؤسس له لقاء بعبدا؟ وهل ان اللقاء اتخذ قرارا من جانب واحد بفتح الباب امام تعديلات دستورية بذريعة التطوير الواجب اعتماده في نظامنا السياسي؟ وحذر المستقبل من مجموعة الغام سياسية ووطنية في البيان تستدعي المراقبة والتنبيه.