مَنْ يلوي ذراع مَن: الشارع المتجد إلى العنف الليلي، عبر الحرائق والحجارة، والتصدي للقوى الأمنية، أو السلطة، التي لم ترتقِ اجراءاتها إلى مستوى ما يجري على الأرض، ويهدّد ليس إسقاط حكومة، بل إسقاط بلد (والتعبير للرئيس حسان دياب)، بل اكتفت بإجراءات، بعضها قضائي، والآخر عدلي، والثالث أمني، وصولاً إلى وضع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي نجا «بجلده» كما يقال، وتعهد بضخ دولارات في الأسواق، عبر نقابة الصرافين لوقف الصعود الهستيري للدولار، الذي تجاوز الـ5000 ليرة، بعد ان نجح الرئيس نبيه برّي، بإبعاد «كأس الاقالة» عن الحاكم، بعد الكشف عن آلية لتخفيض سعر الدولار إلى ما تحت الأربعة آلاف ليرة لبنانية.
وكشفت مصادر (المستقبل ويب) اطلعت على أجواء لقاء بعبدا بين رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة بعد ظهر أمس، ان الرئيس نبيه برّي تصدّى لاتجاه كان جدياً منذ يوم أمس الأوّل ويرمي إلى إقالة سلامة، وأكّد انه لن يقبل بأن «يخرب البلد على أيامي».
وأضافت المصادر انه تمّ التوافق في ضوء تحذير برّي على وجوب توحيد أرقام خطة الحكومة المالية بالتوافق مع سلامة، بالتوازي مع تخفيض سعر الدولار تمهيدا لاحالة الخطة إلى مجلس النواب لمناقشتها واقرارها.
ولوحظ انه رغم الهمروجة السياسية والاعلامية التي رافقت جلستي مجلس الوزراء بالامس والضجيج المفتعل حول اهمية القرارات المتخذة لحمل الحاكم على ضخ كميات اكبر من الدولارات في السوق، فان تأكيد الحاكم رياض سلامة على التعاميم التي اصدرها سابقا بهذا الخصوص بقيت هي ذاتها ولم تستتبع باي تعاميم جديدة، وهذا الواقع يؤكد ان ما حصل كان مفتعلا وليس عفويا.
وبين مشهد وسط بيروت، أو قلب العاصمة، الذي كانت عملية إعادة بنائه ايذاناً بطي صفحة الحرب، يحترق، وإجراءات السلطة، التي تغرق في تدابير لا تتلاءم مع طبيعة المرحلة والمواجهة الجارية على صعيد المنطقة، ووضعية لبنان داخل هذا الاشتباك الدولي- الإقليمي، صدم المواطنون بقرار المجلس التنفيذي لنقابة اتحاد القصابين، مساء أمس، وتجار المواشي، بالتوقف عن العمل، بسبب العجز عن تأمين الدولار لاستيراد المواشي، (البيان) محملاً الدولة اللبنانية كامل المسؤولية لفقدان مادة اللحوم وارتفاع أسعارها.
واستعانت الحكومة، الغارقة في بحر الأزمات المتلاحقة، «بصديق» من «أهل البيت»، علناً، ومن دون كتمان أو ما يشاكله، لتدبُّر طريقة لكسب الوقت، والخروج بأقل خسائر ممكنة من «مأزق الدولار» وارتباطه «بقانون قيصر» السوري.
وكان انفجار ليل الخميس- الجمعة مفاجئاً للجمهور الغاضب، لكنه ضمن سيناريو الضغوطات المتبادلة بين الولايات المتحدة وفريقها اللبناني والإقليمي وطهران وفريقها اللبناني والإقليمي أيضاً، للاعلان: مَنْ يصرخ أولاً.
اتجهت الأنظار، إلى ما أعلنه الرئيس نبيه برّي من قصر بعبدا، بعدما توجه إليها بين الجلستين..
1 – الإعلان عن تخفيض قيمة الدولار إزاء الليرة، بدءاً من الاثنين إلى ما دون سقف الـ4000 ليرة لكل دولار..
2 – مخاطبة صندوق النقد الدولي بلغة واحدة، تحت نظر المجلس النيابي.
وحمل الموقف انفراجاً حذراً، وتنفست حكومة دياب الصعداء، بعد جلسة بدت عاصفة، في ضوء كلام وزيرة العدل ماري كلود نجم، التي كشفت ان الاستقالة العامة أو حتى الخاصة، ليست على الطاولة.. في وقت لاحق الحاكم رياض سلامة يضرب اخماساً بأسداسٍ كاشفاً عن ضخ الدولارات في الأسواق للصيارفة، فيما الشارع، اعتبر نفسه غير معني لا بجلسة مجلس الوزراء صباحاً، ولا بالاجتماع الرئاسي الثلاثي، ولا بقرارات الجلسة من بعبدا عصراً.
ضخ السيولة بعد الجلستين فما الذي حدث؟
بسحر ساحر، وبعد انتفاضة شعبية واسعة على السلطة الحاكمة مالياً وسياسياً ليل الخميس ويوم امس، بسبب الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار مقابل الليرة وتردّي الاوضاع الاقتصادية والمعيشية للبنانيين، قررت هذه السلطة «الافراج» عمّا لديها من مخزون الدولار لضخّه في السوق، بعد تعهد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ونقابة الصرافين بذلك، وبعدما وصلت الى مسامع سلامة معلومات عن نية جدية لدى الرئيسين ميشال عون وحسان دياب، لا سيما الاخير، بإقالته بسبب تفلت سعر الدولار بلا ضوابط وعدم التدخل في السوق. وسط تساؤلات حول كيف كان هناك عجز بضخ الدولار وكيف اصبح هناك كميات لضخها في السوق، ومن الذي كان يخفي الدولار او يتلاعب به ولأي سبب مالي او سياسي؟ فيما لوحظت بصمات رئيس المجلس نبيه بري في التسوية وايجاد الحل بزيارته قصر بعبدا قبيل الجلسة الثانية حيث التقى الرئيسين عون ودياب. كما لوحظ تشدد المجلس بملاحقة المخالفين والمتلاعبين بالنقد الى المحاكم المختصة، بما فيها المجلس العدلي واعتباره ضمنا ان المسّ بالنقد الوطني بمثابة مسّ بالامن الوطني والقومي.
فقد انعقدت جلسة مجلس الوزراء امس في جلستين، اولى صباحاً في السرايا الحكومية برئاسة حسّان دياب، وفي حضور سلامة، وجمعية المصارف والمدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم وانضم اليهم وفد من نقابة الصرافين، وثانية بعد الظهر في القصر الجمهوري برئاسة الرئيس عون، صدرت عنها قرارات الافراج عن الدولارات وضخها في السوق.
وأفادت المعلومات أن مجلس الوزراء أخذ علما في الجلستين، بتعهد حاكم مصرف لبنان بضخ دولارات بالسوق بسعر 3850 ليرة فورا على ان يبدأ من يوم الاثنين تراجع سعر الصرف تدريجيا حتى يصل الى 3200 ليرة.
وتم تشكيل خلية أزمة وزارية لمتابعة المواضيع المالية، وتكليف وزير الداخلية بالتشدد مع الصيارفة غير الملتزمين ووزيرة العدل بملاحقة الذين ينشرون الأخبار والمزاعم الكاذبة عن طريق المدعي العام التمييزي.
وعلمت «اللواء» ان خلية الازمة برئاسة وزير المالية وعضوية وزراء: الاقتصاد، والتنمية الادارية، والصناعة، والاعلام، وحاكم مصرف لبنان واللواء عباس ابراهيم، ورئيس جمعية المصارف ونقيب الصرافين، ومهمتها حسب القرار الرسمي: «متابعة تطورات الوضعين المالي والنقدي وتطبيق القرارات، على ان تجتمع هذه الخلية في وزارة المالية مرتين في الاسبوع، ويقدم من خلالها حاكم مصرف لبنان تقريراً مفصلاً عن التطورات وترفع خلاصة عملها بشكل دوري الى رئيس مجلس الوزراء لعرضها على مجلس الوزراء».
وفي القرارات التي صدرت رسميا: كلّف مجلس الوزراء وزيرة العدل ماري كلود نجم الطلب من النائب العام التمييزي اجراء التعقبات بشأن ما اثير ويُثار من وقائع ملفقة او مزاعم كاذبة لإحداث التدني في اوراق النقد الوطني، والذي ادى الى زعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وغيرها من الافعال الجرمية المنصوص عنها في الباب الاول من الكتاب الثاني من قانون العقوبات، تمهيدا لاحالة ما ينتج عن تلك التحقيقات من دعاوى على القضاء المختص بما فيه المجلس العدلي.
كذلك، طلب مجلس الوزراء من الاجهزة الامنية على اختلافها وتنوعها التشدد في قمع جميع المخالفات واحالتها فوراً على المراجع القضائية المختصة تمهيداً لاتخاذ الاجراءات القانونية بحق المخالفين لا سيما مصادرة العملات الاجنبية التي يثبت انها شكلت موضوع تلك الجرائم.
وكان قد سبق جلسة الصباح، لقاء بين رئيس الحكومة واللواء عباس ابراهيم، الذي قام حسب المعلومات باتصالات واسعة مع المعنيين من الرؤساء الثلاثة الى سلامة ونقابة الصرافين، لتقريب وجهات النظر بين الحكومة وسلامة، «الذي يرفض تحميله المسؤولية الكاملة لا سيما بعد افتتاح المنصة الالكترونية امس ولكن لم يحضر أي صرّاف لطلب الدولار».
وكشفت مصادر وزارية أن الوزيرة نجم قدمت خلال الجلسة الصباحية، مداخلة عالية النبرة حول مسؤوليات ما وصلت اليه الامور وحمّلت فيها سلامة جزءاً كبيرا من المسؤولية إضافة الى الحكومات المتعاقبة والمصارف، مشددة على مسؤولية الوضع النقدي التي هي على عاتق مصرف لبنان. وقالت أمام الوزراء حسب معلومات «اللواء» ومحطة «ال.بي.سي: لم نأتِ الى الحكم لنجري تسويات ولا للدفاع عن الذين تسببوا بالازمة، نحن نصطدم بنظام مهترئ فاسد ويعيد انتاج نفسه. وضعنا خطة مالية وعلقنا دفع السندات، عدا عن ذلك لم نجرِ التدقيق المحاسبي الذي وعدنا به. اصطدمنا بعدم وجود ارادة في مجلس النواب لاقرار القوانين بالصيغة التي تحقق فعلا مكافحة الفساد.
وتوجهت بكلامها الى حاكم مصرف لبنان بالقول: انت مسؤول لأنك مؤتمن على سلامة النقد، والحكومات المتعاقبة والمصارف يتحملون ايضا المسؤولية عما وصلنا اليه. التدقيق يجب ان يطال الحاكم ونوابه والمجلس المركزي وكل من تولى مسؤولية عامة في مجال المالية من وزراء ومديرين عامين ومفوضي حكومة.
وطالبت نجم بأن يبدأ التحقيق بأسرع وقت وان يمنع كل هؤلاء من السفر طيلة التحقيق وان ترفع السرية عن حساباتهم وممتلكاتهم داعية الى اتخاذ قرار باجراء انتخابات نيابية في ايار المقبل والاعلان عن ذلك. وقالت: المطلوب ان نواجه لا ان نهرب.
وقالت نجم لسلامة: «يللي حامل ٤٠٠٠ دولار على الموتوسيكل بالضاحية، مش هو سبب الازمة. ١٧ تشرين مش سبب الازمة». هذه نتائج الازمة. والازمة نتيجة سياسات مالية خاطئة لا بل مجرمة ادت الى هدر المال العام وتعميم الفساد بالدولة. الازمة نتيجة هندسات مالية جرت لتغطية خسائر المصارف التي قامت باستثمارات فاشلة خارج لبنان.
وأضافت: «انت مسؤول عن سلامة النقد الوطني وضروري تلاقي حل. مش عم افهم صرلكم اشهر تصدرون تقارير تطمئن لسلامة الليرة واذا بالدولار يقفز دون رقيب او رادع».
لكن مصادر وزارية قالت لـ«اللواء» ان الحاكم سلامة رد بان المركزي كان يضخ الدولار بالسوق للصيارفة لكن ليس بالكميات الكافية، وان نقاشات واسعة حصلت خلال الجلستين وجرت مداخلات من معظم الوزراء حول تشكيل خلية الازمة ومهامها ومسوؤلياتها، ومن يضمن تعهد المركزي والصيارفة الالتزام بالتعهد بضخ الدولار، فيما طلب بعض الوزراء بتسهيلات مصرفية للتجار لشراء المواد الاستهلاكية، وتحويل الاموال للمحتاجين في الخارج مثل الطلاب واصحاب القروض المالية. وعدم بيع المصارف الدولار لتجار العملة غير المرخصين.
اجتماع ثلاثي
وقبيل الجلسة الثانية في قصر بعبدا، عُقِدَ اجتماع ضم الرؤساء عون وبري ودياب، قال بعده بري: عادة لا احب ان اتحدث الى الاعلام كي لا ازعجكم، ولكن بعد الذي حصل بالامس وما لمسته من خطورة على البلد وعلى المواطن خاصة، لا بد من الكلام. وتم الاتفاق خلال هذا اللقاء على ما يلي:
اولاً، تخفيض قيمة الدولار ازاء العملة اللبنانية ابتداء من اليوم (امس)، ولكن حقيقة سيبدأ ذلك بدءاً من الاثنين، الى ما دون 4000 ليرة للدولار الواحد، وصولاً الى 3200 ليرة للدولار. هذا الامر سوف يحصل، وتم الاتفاق على الاجراءات في جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت قبل الظهر.
ثانياً، الموضوع الثاني الذي تم الاتفاق عليه هو مخاطبة صندوق النقد الدولي بلغة واحدة، برعاية المجلس النيابي.
وسُئِلَ بري عما اذا كان البحث قد تناول اقالة حاكم مصرف لبنان؟ فقال نحن بحاجة اليوم الى جميع الناس، ولسنا بحاجة الى الاستغناء عنهم.
الجلسة الثانية
وانعقدت الجلسة الثانية للحكومة قرابة الثالثة بعد الظهر، وانتهت قرابة الخامسة واكدت على مقررات جلسة الصباح، لكن لوحظ ان الرئيس عون اعلن خلالها أن «ما حصل بالأمس نتيجة ارتفاع سعر الدولار من دون اي مبرر يجعلنا نتساءل عما اذا كان الرقم الذي اعطي لسعر الدولار هو شائعة تم تعميمها لينزل الناس الى الشوارع وتقع المواجهات؟ وهل هي لعبة سياسية ام مصرفية ام شيء اخر؟».
وقال الرئيس عون في هذا الإطار: أن «الخبراء الماليون أكدوا انه لا يمكن للدولار او اي عملة اخرى ان تقفز خلال ساعات الى هذا الحد. وهذا ما يبعد صفة العفوية عن كل ما حصل، ويؤشر لمخطط مرسوم نحن مدعوون للتكاتف لمواجهته».
اما رئيس الحكومة حسان دياب فاكد في مستهل الجلسة أن «البلاد لم تعد تحتمل خضات إضافية، والمطلوب اجراءات قاسية لوضع حد لأي شخص او جهة تلجأ إلى هذا الأسلوب، ولا بد من اتخاذ اجراءات عملية تعطي مناعة اكبر للحكومة والدولة».
وكشفت مصادر وزارية لـ«اللواء» انه بعد كلام الرئيسين عون ودياب، تحدث بعض الوزراء فحمّل الحاكم سلامة المسؤولية، والبعض رأى ان المسؤولية جماعية. وسجلت مداخلات لوزراء العدل والتنمية الإدارية والتربية والصناعة والشؤون الاجتماعية والمهجرين حول تدهور الوضع موضوع المسؤولية للحاكم.
وحذر نائب تكتل الجمهورية القوية جورج عقيص في تصريح لـ«اللواء» من مشهد مخيف في حال تفلتت الأوضاع اي ربما نشهد مناطق منغلقة على بعضها ورؤساء احياء وشبيحة، معلنا في الوقت نفسه ان القوى العسكرية تظهر تماسكا وحزما واستيعابا انما المطلوب ايضا الاستقرار السياسي اذ لا مصلحة لأحد ومهما كانت الانقسامات السياسية كبيرة ومهما تباعدت القوى عن بعضها البعض في ان تذهب الأمور الى الفوضى.
واستغرب ما تقوم به الحكومة لاغضاب الناس والمجتمع الدولي, ما يطرح سؤالا عما اذا كان الامر متقصدا, معلنا ان الحكومة بعيدة عن اجراء الاصلاحات وانه بدلا من السعي لجلب المساعدات نهربها.
وقررت الحكومة إعادة فتح المطار، بعد اجتماع خصص لهذه الغاية، بدءاً من الأوّل من تموز، بقدرة تشغيل توازي 10٪ من «حركته التشغيلية العام الماضي والتوقيت نفسه».