العميد المتقاعد شارل ابي نادر-
مثلما كان منتظرا ، رد فخامة رئيس الجمهورية التشكيلات القضائية الى مجلس القضاء الاعلى ، دون توقيع المشروع ، متوجها الى المجلس االمذكور بجملة من الملاحظات والتحفظات ، لافتا الى ان اعادة النظر في هذه المناقلات امر متاح في كل حين ومناسبة، ومتروك لتقدير مجلس القضاء الاعلى .
بمعزل عن ما تضمنه الرد من تفسيرات قانونية ودستورية ، واضحة عليها وبقوة اقتراحات وبصمات وزيرة العدل صاحبة التاريخ الاكاديمي المشرف في ارقى جامعات الحقوق في لبنان ، فان رد فخامته يحمل الكثير من الرسائل ، وللكثير من المعنيين ، وفي كثير من الاتجاهات ، وهذه الرسائل صالحة لان تشكل نقطة مفصلية لمن اراد وبصدق أن يكون للقضاء في لبنان موقع ودور ورسالة وواجب وصلاحية .
الرسالة الاولى جاءت لكل القوى السياسية والحزبية النافذة ، والممثلة بمجلس النواب الكريم ، وفيها اضاءة واضحة بان رئيس الجمهورية المؤتمن على الدستور ، لن يتخلى ومهما كانت الصعوبات والضغوط ، عن القليل مما تركه له دستور الطائف الهجين من صلاحيات ، ومنها من هذا القليل ، حقه في توقيع او عدم توقيع المرسوم العادي ، احتراما لقسمه بالمحافظة على هذا الدستور ، والذي ارادته هذه الطبقة السياسية والحزبية ، مطية لرغبات ومصالح مذاهبها وجماعاتها .
الرسالة الثانية جاءت لمجلس القضاء الاعلى ، وفيها أضاء فخامته على جملة من التجاوزات غير المنتظرة من جانب المجلس المذكور في مشروع التشكيلات القضائية الذي اقره ، ومنها تجاوزات للدستور ولمعايير الكفاءة والاقدمية والانتاجية والنزاهة ، بالاضافة لتجاوز او عدم التقيد بالقوانين المتعلقة بتنظيم القضاء وبصلاحيته وبمضمون استقلاليته ، بحيث ذكَّر فخامته مجلسَ القضاء بان مفهوم استقلالية القضاء لا تعني مطلقا ، ان يدير المجلس الاخير ظهره للسلطة التنفيذية التي عليه التعاون معها احتراما لمقتضيات الدستور ، وان يخضع بنفس الوقت لسلطة زعماء الطوائف الذين عينوا اعضاءه عضوا عضوا وبالتمام والكمال ، فتخرج تشكيلاته ممهورة ببصماتٍ سياسية مذهبية معروفة ومشبوهة ، كان لاصحابها وما زال ، الفضل الاكبر في التأسيس لخراب وفساد وافساد البلاد والعباد .
الرسالة الثالثة جاءت ولو بطريقة غير مباشرة ، لامراء الطوائف رعاة قضاة مجلس القضاء الاعلى الكريم ، وفيها اكثر من تصويب وعتاب ولوم وتحميل مسؤولية ، عن دورهم الهدام في استمرار النزف الحاصل في عمل ومسؤولية ودور القضاء ، من خلال مثابرتهم على التدخل بعمله ، والذي اكثر ما نحتاج اليوم للخروج من الانهيار المالي والاخلاقي والاقتصادي والاجتماعي ، نحتاج له نظيفا عفيفا مستقلا موضوعيا ، صاحب ضمير مهني منزه عن السياسة وعن المذهبية وعن المحسوبيات .
وذكّر فخامته ايضا في رسالته هذه للقوى السياسية ، بانه " لن يكون هناك استقلاليّة للسلطة القضائيّة إن لم يتحرر القضاء من القيد الطائفي بتطبيق دقيق للمادة 95 من الدستور، في الوقت الذي اقدم فيه مجلس القضاء الاعلى ، وطبعا بتوجيه واضح من زعماء الطوائف الذين يؤخرون حتى الان اعطاء تفسيرهم للمادة المذكورة ، بتثبيت مستغرب و للمرّة الأولى بشكلٍ خطّي وصريح، مذاهب جميع المراكز القضائيّة في النيابات العامة وقضاء التحقيق ورئاسة جميع الغرف .
وتبقى الرسالة الاهم في رد فخامة الرئيس هي للثوار، او لمن لفّ لفّهم دون استثناء ...
لمن يفهم منهم حقيقة المشكلة في لبنان ، كي يرى ويلتمس ماذا قدم له رئيس الجمهورية عندما فتح النار على منظومة الفساد والهدر وقامت بوجهه سلاطين الرشوة والمال والسياسة الموبوءة ...
ولمن لا يفهم منهم ، لا حقيقة المشكلة ولا اي شيء آخر ، واطلق العنان لصراخ مشبوه مرتهن موجّهٍ رخيص ، بوجه من شكل نقطة مفصلية في تاريخ لبنان نحو الاصلاح الحقيقي ، وبوجه من وضع الاصبع على جرح مشكلة متمادية مستمرة منذ حوالي ثلاثين سنة ...
لمن ثار على الطبقة السياسية وعلى الفساد عن دراية وتصويب صحيح ، وكان صوته خافتا ضعيفا بعد ان طوقته ميليشيات الفساد والسرقة ، فجاءت رسالة الرئيس له داعمة ومحركة وملهمة ...
لمن ثار تحت شعار " كلن يعني كلن " في العلن وعلى العهد فقط في الخفاء ...
لمن ضعُف امام وعود مشبوهة ، فخرج من عباءة الرئيس ومن غطائه الصادق الشريف ...
لجميع هؤلاء جاءت رسائل فخامته ، فهل من يتعظ قبل فوات الأوان ؟؟