تتداخل الضغوط المالية الأميركية والردود السياسية والعسكرية الميدانية على الوجود الأميركي في العراق وسوريا، مع مشاريع تفاوضيّة تبدو أقرب للتفاوض على صفيح ساخن، فمع استعدادات الحكومة العراقية لبدء التفاوض مع الأميركيين حول مستقبل علاقات البلدين، وفي قلبها مستقبل الوجود الأميركي في العراق، جدّد السيد مقتدى الصدر تحذيره للأميركيين من البقاء في العراق، مذكراً بدعواته السابقة لهم بالانسحاب قائلاً لقد أُعذر من أنذر، بينما سجل سقوط صاروخ قرب السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء.
بالتوازي تشتدّ الضغوط المالية على سوريا، تحت عنوان قانون قيصر للعقوبات، الذي اعترف المبعوث الأميركي الخاص بسوريا جيمس جيفري، في لقاء ببعض رموز المعارضة المحسوبين على واشنطن، بمسؤوليته عن تصعيد الأزمة المالية في سوريا، معلناً أن واشنطن قدّمت عرضاً للرئيس السوري لتجاوز العقوبات والأزمة المالية، تحت عنوان الحل السياسي، الذي تريد واشنطن أن يضمن دوراً للجماعات المحسوبة عليها في مستقبل سوريا، كاشفاً عن مضمون الطلبات الأميركية وما تتضمّنه من دعوة لإخراج قوى المقاومة من سوريا، والقوات الإيرانية، والتي تعتبرها الدولة السورية سنداً لموقفها بعد الإعلان الأميركي بدعم قرار كيان الاحتلال بضمّ الجولان، ومقدّمة لمقاومة لتحرير الجولان ورفض توفير الأمن لكيان الاحتلال طالما بقي الجولان تحت الاحتلال، بما يعنيه قبول الطلب الأميركي بخروج قوى المقاومة وإيران من سوريا من قبول ضمنيّ بالتسليم بضم الجولان وسلخه عن الجغرافيا السورية. وهو ما قالت مصادر متابعة إنه يعيد للذاكرة مطالب وزير خارجية أميركا عام 2003 كولن باول الذي حمل للرئيس السوري طلباً بإخراج قوى المقاومة، مقابل عدم مواصلة الحرب الأميركيّة نحو سوريا، وكان الجواب المعلوم للرئيس السوري بالتمسك بكل مقاومة بوجه الاحتلال.
يفتح هذا التفاوض على الصفيح الساخن باب التفاوض اللبناني مع صندوق النقد الدولي، الذي يشكل تفاوضاً غير مباشر مع الأميركيين، الذين يبدو وفقاً للمعلومات الواردة من السفراء الغربيين، أنهم يتريثون لكشف أوراقهم، اعترافاً منهم بحساسية الوضع في لبنان لاتصاله مباشرة بأمن كيان الاحتلال في ظل وجود المقاومة ومقدرات سلاحها، ولذلك يفضلون استكشاف ما يجري على مسارات تفاوضية أخرى تواكبها الضغوط المالية، خصوصاً ما يتصل بإيران والعراق وسوريا، ويكتفون في المرحلة الأولى بتمرير الرسائل غير المباشرة حول ترسيم الحدود البحرية للنفط والغاز كضرورة لضمان عائدات لبنانية تغطي لاحقاً مساهمات صندوق النقد الدولي، ما يعنيه ذلك من قبول المشروع الأميركي للترسيم وما يتضمّنه من تنازلات لبنانية لحساب كيان الاحتلال، ومثلها الرسائل حول وجود المقاومة في سوريا وخط إمداد سلاحها تحت شعار المعابر غير الشرعية والحديث عن التهريب، ومثلها مباشرة حول السلاح كما أشارت الرسائل التي حملها التحرك الهزيل لجماعات تحركها السفارة الأميركية قبل أيام.
بالتوازي تسعى المراجع الرسمية اللبنانية لضمان حسن سير التفاوض مع صندوق النقد الدولي بترتيب أوراق الملف المالي، حيث عقد اجتماع في بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وحضور رئيس الحكومة حسان دياب ووزير المالية غازي وزني وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومدير عام وزارة المالية ألان بيفاني، وتم الاتفاق خلاله على اعتماد ارقام الحكومة كأساس للتفاوض مع صندوق النقد، وسحب تحفظات مصرف لبنان من التداول التفاوضي، بعدما أدى تباين الأرقام إلى إضعاف موقف لبنان التفاوضي وتسجيل ملاحظات من عدد من المراجع المالية والدبلوماسية حول ما تشير إليه ذلك من ضعف وتفكك وتحوله إلى عائق أمام التوصل إلى إطلاق التفاوض الجدّي بعيداً عن مماحكات الأرقام.
وعُقد اجتماع مالي في بعبدا أمس، برئاسة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وحضور رئيس مجلس الوزراء حسان دياب ووزير المالية غازي وزني وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمدير العام للمالية ألان بيفاني وعدد من المستشارين.
واستكمل البحث في ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وبحسب بيان صدر عن المجتمعين فقد تم التداول بأرقام القطاع المالي والمصرفي وتوافق المجتمعون أن تكون الأرقام الواردة في خطة الحكومة منطلقاً واضحاً لاستكمال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وسبق الاجتماع لقاء جمع الرئيسين عون ودياب بحث في المستجدات والاوضاع العامة.
وفيما لفتت مصادر «البناء» الى أن «توحيد الأرقام لدى الوفد اللبناني خطوة إيجابية وتحصّن الموقف اللبناني الرسمي وجاءت حصيلة وساطات ومشاورات بين الحكومة وحاكم مصرف لبنان لعب رئيس المجلس النيابي نبيه بري دوراً محورياً فيها».
ولفت الخبير المالي والاقتصادي د. وليد أبو سليمان إلى أنّ «المفاوضات مع صندوق النقد تحتاج الى خمسة أشهر كحد أدنى لتظهر نتائجها العملية»، مشيراً لـ«البناء» الى أن «عامل الوقت ليس لمصلحة لبنان وسينعكس سلباً بسبب ضغط الأزمات المالية والنقدية المتفاقمة». وأوضح أن «مصرف لبنان لا يريد تحمل اتهام الحكومة له بالخسائر الفادحة في المصرف المركزي، فيما الحكومة ترفض تحمل كل الأعباء، والتشخيص من الجانبين ليس دقيقاً، فالخسائر الكبيرة يتكبّدها المودع اللبناني المقيم والمغترب، فالخسائر المقدرة بحوالي 80 مليار دولار هي خسائر المودعين».
وبرز تقرير «مجموعة الأزمات الدولية» بإشارته إلى أن «الأزمة الاقتصادية الراهنة التي يشهدها لبنان غير مسبوقة في تاريخ البلاد»، منبّهة إلى أن «لبنان يحتاج إلى مساعدات خارجية ملحّة لتفادي أسوأ العواقب الاجتماعية». وأوضحت أنه «من أجل الحصول على تمويل جديد وتجنب الأسوأ، يتوجّب على لبنان تسريع المفاوضات مع «صندوق النقد الدولي» بشكل عاجل»، لافتةً إلى أنه «إلى حين توفر دعم دولي أكبر، قد تحتاج الجهات المانحة الخارجية إلى زيادة مساعداتها الإنسانية لمساعدة اللبنانيين الأكثر تأثراً بالأزمة».
في غضون ذلك، تعرض الاتفاق بين الحكومة ونقابة الصرافين على خفض تدريجي لسعر صرف الدولار الى انتكاسة مع تسجيل ارتفاع في سعر الصرف أمس تجاوز الـ 4000 ل.ل وظهور السوق السوداء مجدداً للتحكم بالأسعار بعكس ما تم الاتفاق عليه بضبط السوق غير الشرعية وانشاء المنصة الالكترونية.
وأشار نائب نقيب الصرافين، إلى أنه «عندما عدنا الى عملنا بشكل طبيعي، عاهدنا الحكومة أن نسعّر الدولار بشكل واقعي ومنطقي، وتفاجأنا يوم الجمعة أن السوق السوداء عادت ودخلت الى الخط». وشدد على ضرورة «وجود مواكبة أمنية لردع السوق السوداء». وأمس اعلنت المديرية العامة لأمن الدولة في بيان ضبط أربعة صرافين في محلة شتورا: اثنان يقومان بتصريف الدولار بسعر 4300 ليرة لبنانية، وكان سبق أن تم إقفال محليهما بالشمع الأحمر، وآخران غير شرعيين.
وقال خبراء اقتصاديون إن «المنصّة الإلكترونية المزمع إطلاقها هي فقط لضبط التداول، وكل ما تحاول الحكومة القيام به هو لجم الطلب على الدولار بالقوة، لكن الطلب بمثابة نهر جارف تحاول التخفيف منه، وبالتالي لا يمكن السير بعكس الطبيعة والمنطق الذي يقول إنه كلما زاد الطلب حصل ضغط أكثر على الدولار»، ولفت الخبراء الى أن «الطريقة الوحيدة لتخفيض الدولار هي من خلال ضخ سيولة في السوق».
الى ذلك بقي قانون العقوبات الاميركية الجديدة قيصر على سوريا موضع اهتمام رسمي بعيداً عن الأضواء، وسط آراء عديدة داخل الحكومة تتوزع بين الالتزام بالقانون تحسباً لأي ردة فعل خارجية ضد لبنان، عدم تطبيق القانون واعتبار لبنان غير معني طالما لم يطلب الأميركيون اي شرط حتى الآن، او المبادرة للتفاوض مع الاميركيين لتجنيب لبنان مفاعيله الى الحد المقبول كحال دول أخرى كالعراق». وعلمت «البناء» أن «اللجنة الوزارية المكلفة متابعة ودراسة قانون قيصر عقدت امس اجتماعاً في السرايا الحكومية ولم تتوصل الى اي نتيجة نهائية».
وقللت أوساط سياسية من مفاعيل القانون، مشيرة لـ«البناء» الى أنه «آخر الأوراق الاميركية التي تلعبها في الشرق الأوسط ضد محور المقاومة».
وعادت أزمة المحروقات الى الواجهة، إذ أعلنت محطات الأيتام للمحروقات، عن «نفاد وانقطاع مخزون الديزل (المازوت) في محطاتنا، في بيروت والجنوب والبقاع الأمر الذي ينذر بأزمة خانقة». في المقابل أعلنت رئاسة الحكومة، في بيان، انه «بناءً على توجيهات رئيس مجلس الوزراء حسان دياب تم أخذ عينات المازوت من البواخر لإجراء الفحوصات المخبرية اللازمة على أن يتم توزيع مادة المازوت على الأسواق خلال الـ 24 ساعة المقبلة بعد إصدار نتائج الفحوصات».
الى ذلك، انكبّت القيادات السياسية على تحليل أحداث السبت الماضي وأبعادها السياسية، ونقل زوار الرئيس عون عنه لـ«البناء» امتعاضه مما آلت إليه الأمور يوم السبت الماضي، مشيراً الى «أننا سعينا ونسعى الى بناء وطن موحد لكل اللبنانين ودولة عادلة قادرة أن ترعى مصالح جميع شرائح الشعب وتحمي حقوقهم وكرامتهم، لكن ما شاهدناه مؤخراً من مظاهر التفلت والفوضى وإيقاعنا في الفتن يقوّض الدولة»، ونفى الزوار أي «نية لدى بعبدا لتغيير الحكومة أو تعديل في بعض المواقع الوزارية. فالحكومة لديها نقاط قوة وضعف وبعض الثغرات كما كل الحكومات السابقة. وبالتالي الوقت ليس لتغيير الحكومة في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة وبالأخص أنها تقوم بعملية تفاوض مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية للحصول على مساعدات مالية،
ولفتت مصادر نيابية في التيار الوطني الحر لـ«البناء» الى أن «لا حلّ إلا بالتوجه الى صندوق النقد الدولي في محاولة أخيرة لإنقاذ البلد من الانهيار التام»، لافتة الى أن «اجتماع بعبدا المالي والتوصل الى اتفاق حول الأرقام يشكل خطوة أساسية وقوة دفع لاستكمال المفاوضات مع الصندوق والتوصل الى نتائج ايجابية». ولم تستبعد المصادر «توجه التيار الوطني الحر لتغيير بعض الوزراء المحسوبين عليه بوزراء اختصاص آخرين أكثر كفاءة وقدرة على الإنجاز، لكن الأمر لا زال قيد الدرس ولا قرار نهائي».
وعن أحداث السبت أوضحت المصادر أن «التيار كما كل الأطراف عبر عن امتعاضه وإدانته لمشاهد الفتن في أكثر من منطقة لا سيما في الشياح – عين الرمانة»، كاشفة عن جهود كبيرة قام بها التيار لتهدئة الشارع واحتواء التصعيد، داعية الى تحصين الوحدة الوطنية والتماسك الداخلي ضد كل أنواع الفتن».
وعن قول أحمد الحريري بأن التيار كان أول من أثار مسألة سلاح حزب الله خلال الأيام القليلة الماضية، لفتت المصادر الى أن «الحريري يتسلّح بالحجج الواهية وتصرفاته الصبيانية لن توصل الى مكان، بل تساهم في خراب البلد».
وتداعى رؤساء الحكومات السابقين الى بيت الوسط حيث عقدوا اجتماعاً حضره الرئيس سعد الحريري، وبحسب معلومات «البناء» فقد طلب الرؤساء فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام من الحريري عودة الشرعية السنية الى الحكم وبالتالي المطالبة بعودة الحريري الى رئاسة الحكومة، لكن الحريري أكد لهم عدم جهوزيته لهذا الأمر. ونقل السنيورة عن المجتمعين أن «الكلام عن الوحدة وعدم إثارة الفتن لم يعد كافياً والمطلوب من القيادات التشديد على مناصريها عدم افتعال الفرقة». ولفتت مصادر «البناء» الى أن تغيير الحكومة ليس وارداً عند الرئيس عون ولا عند حزب الله وأن لا معطيات جديدة داخلية وخارجية تدفع الى تغيير المعادلة الحكومية، بل على العكس التطورات جميعها تدعو للتمسك بالحكومة أكثر مع ضرورة تشغيل طاقتها القصوى للتخفيف من وطأة الأزمات وتحقيق الإصلاحات».
على الصعيد الأمني، أفادت قناة «المنار»، نقلًا عن مصادر أمنية، أن «الاجتماع الأمني الذي عقد الأحد أمس في بعبدا، شهد تقييماً هاماً لأحداث يوم السبت الفائت لناحية خطورتها»، منوّهةً بأن «مداولات اللقاء الأمني أفضت الى انه كانت هناك محاولة حثيثة لتأجيج الفتن». ولفتت المصادر إلى أنه «تم اتخاذ القرار بملاحقة كل من ساهم بتأجيج الأحداث، مع معرفة كل مَن كان خلفه، على أن يترافق ذلك مع اتصالات حثيثة مع كافة القوى السياسية». وشدّد على أنه «لا زلنا نرصد مجموعات تعمل من اجل التخريب والصدام، ولدينا معلومات وفيرة ومهمة عما يخططون له».
ولفتت مصادر مطلعة لـ«البناء» الى أن «الأجهزة الأمنية نفذت عملية استباقية قبيل تظاهرة يوم السبت واعتقلت خلايا كانت تحضر للقيام بأعمال شغب في وسط بيروت تشغلها أجهزة استخبارات خارجية بمساعدة جهات داخلية كاللواء أشرف ريفي وبهاء الحريري»، إلا أن مصادر اللواء ريفي نفت لـ«البناء» أي علاقة بالتحركات في الشارع أو بأعمال العنف التي حصلت في وسط بيروت وطرابس كما نفت اي علاقة او تنسيق مع بهاء الحريري، رغم ان الاتصالات بينهما قليلة وتقتصر على المناسبات والمجاملات وكان آخرها اتصال بهاء لتعزية ريفي بوفاة والدته وتم الاتفاق على اللقاء، لكن لم يحصل وبالتالي لا علاقة سياسية أو تحالف يجمعهما».
ولفتت المصادر الى أن «اللواء ريفي لا يخفي طرحه لتسليم سلاح حزب الله وتطبيق 1559 لكن لم يحرك التظاهرات»، واوضحت أن «علاقة ريفي مع الرئيس سعد الحريري عادية»، وعن موقف ريفي في حال عاد بهاء الى لبنان وقدّم نفسه بديلاً عن سعد الحريري لفتت المصادر الى أن «ريفي لا يدخل في الصراع بين الشقيقين ويحافظ على مسافة واحدة وعلاقة عادية بينهما».
أما اللافت بحسب مصادر في فريق المقاومة هو التغير في تصريحات مسؤولين في القوات اللبنانية حيال حزب الله، بالقول إن أفكار الحزب أخطر من سلاحه، مشيرة لـ«البناء» الى أن هذا تحوّل في خطاب القوات من رفضهم للسلاح مع تقبل الحزب سياسياً الى رفض وجودي للحزب، الأمر الذي يتماهى مع المنطق الصهيوني!