بقلم جورج عبيد - يصعب على كاتب مثلي ارتبط منذ نعومة أظفاره ببهاء لبنان أن يراه في لحظة من اللحظات متفلّتًا منهارًا حتى حدود العدم والخارج والداخل متماهون على اقتسامه مثلما حاولوا اقتسام سوريا والعراق قبله. حين كنت في آخر المرحلة الثانويّة في مدرسة الفرير المون لا سال عين سعادة سنة 1988، جاءني رفيقان لي، وأهلهما في ذلك الحين من أثرياء القوم، قالا لي بالحرف الواحد: "يا جورج ما رأيك بأن نتحضّر معًا ونرحل إلى باريس ونبتعد عن أهلنا من دون الاتكال على أموالهم ونعمل في محطة بنزين أو مطعم وندفع القسط من تعبنا. للوهلة الأولى انسابت الفكرة إلى عقلي سلسة، وبعد برهة من الوقت سألتهما، لماذا تريدان الاغتراب بهذا الشكل، وتطلبان منّي أن أرافقكما؟ الفكرة جيدة، ولكن هل نخجل من تطبيقها في لبنان؟ هل نخجل من العمل لأن أهالينا ينتمون إلى طبقات بورجوازيّة أو أرستقراطيّة فنخشى من أن يتعرّف بنا الناس؟ العيب يا شباب أن نخجل من بلدنا إذا عملنا به وكنّا عصاميين، والعيب أن نخجل من شعب منه من لا يقدّر ومنه من سيقدّر ولكن العمل في النهاية بهدف نبيل كهدفنا ليس عيبًا، وأنا شخصيًّا لن أترك وطني، لأنني لا أستطيع أن أرى نفسي منفصلاً عن جذوري وأجعل لبنان مجرّد حنين أو حالة حنين. مضر الرفيقان ومنذ تلك السنة لم أعد أعرف عنهما شيئًا، متمنيًّا لهما إذا ما كانا قد أدركا تلك السطور أن يكون بخير وبنجاح باهر.
لبنان الذي عرفته في الحرب كان أسوأ مما هو عليه الآن. فالقتل والدمار والتهجير وقطع الطرق والخطف، أدوات أظهرت بلاغة السوء وعمق الجراح. ما هو أسوأ الآن في العمق ليس قتل الأجساد بل قتل النفوس والإرادة وتدمير المحبّة والنخوة وتصحير العقل وتخدير الذات. الطامة أنّ الحرب أفرزت مجموعة شعوب لم تحتكم إلى حقيقة واحدة منجيّة. كان معظمها في الحقيقة يرى بانّ زعيم الطائفة والحزب يملك وحده الحقيقة المطلقة، وتسير الشعوب خلفه مدجّنة ومخدّرة وطائعة ومطيعة فيما هو يعمن بالفساد، ويماهي الطائفة به ويسخّرها لحمايته ويضعها بتصرّفه، إلى أن غدا بفساده فوق القانون والنظام والدستور، وإذا شاءت الدولة تحكيم العدالة فتوًّا يشعر المرء أنّنا بتنا على قاب قوسين من الحرب الأهليّة، تلك هي المفردة المشتركة والجامعة بين الفاسدين، "لا نستطيع المسّ بالفاسدين لأنّ ذلك سيؤدّي إلى حرب أهليّة". والخطورة أننا نعرف الفاسدين في الحكم، وندرك بأن الخطورة لم تعد مع فسادهم بل مع عمالاتهم وولاءاتهم والتي استدرجت الخارج إلى الداخل، وجعلت الداخل اللبنانيّ أرضًا زرعوا فيها شهواتهم ومصالحهم، فبقي لبنان رهينتهم حتى الاختناق والموت، ولسان حالنا يصرخ مع الراحل الكبير غسان تويني "أتركوا شعبي يعيش" Laissez mon peuple vivre.
الحلّ الاقتصاديّ بجوهره غير مرتبط بالفساد من حيث التوق للحلّ السريع المنقذ للبنان قبل أن يدخل مرحلة الكسر الوجوديّ. والحلّ السريع بإمكانه أن يكون أوتوماتيكيًّا منفصلاً عن سياق الحرب على الفساد إذا سلّمنا بأنّها قد تكون طويلة "وأصعب من الحرب على القوى التكفيريّة وعلى إسرائيل". وبرأي الخبراء الحلّ الاقتصاديّ السريع يجب أن يتقدّم على كلّ الحلول الأخرى لكون الوضع في لبنان لم يعد قادرًا على الصبر والصمود مع التوحّش في الغلاء وارتفاع سعر صرف الدولار بصورة مرعبة وخشية الخبراء بأن يزداد سعر ارتفاع الدولار توحّشًا. ومع هذا، فإنّ الأزمة الاقتصاديّة المتورّمة بجذورها وأصولها مرتبطة بالفساد بالفعل والإرادة. ذلك أنّ الأقطاب السياسيين المرصوفين ضمن زاوية الفساد والموصوفين بالفاسدين كانوا ولم يزالوا قتلة اقتصاديين للبنان. لم يحتاج الأميركيون إلى جون بيركنز آخر يأتي ويمارس لعبته، بل هؤلاء كانوا "بيركنزيين" يتحرّكون ما بين جون بولتون وجيفري فيلتنمان وكوندوليزا رايس، ومؤخّرًا مايك بومبيو وديفيد شينكر ومارغيت ريتشارد ونيكي هايلي في الأمم المتحدة ودوروثي شيا. يلتمسون منهم الرؤى ويتحرّكون بها في الساحة اللبنانيّة ضمن منهج واحد وهو "الترميد"، أي تحويل الأرض إلى رماد.
إلى مَ يروم الأميركيون في هذا الزمن؟
1-يعيش الأميركيون إفلاسًا ماليًّا كاملاً بالإضافة إلى الإفلاس الأخلاقيّ الكامل على الرغم من اجتياح الجائحة ديارهم. وبنتيجة ذلك يتصرّفون مع الدول الأخرى كأنهم "مواش" (مع الاعتذار عن هذا الوصف) وهم الرعاة لها Cow Boys. ومن هذا المنطلق يتصرّفون حتى تبقى حظائرهم مضبوطة بقوانينهم وضمن قبضتهم.
2-يروم الأميركيون إلى استبقاء منهج الإفلاس سائدًا في تعاطيهم مع عدد من الدول ومنهم لبنان، لتبقى تلك الدول أوراق ضغط ستهلكونها ويستعملونها باتجاه تفعيل مصالحهم.
3-في هذه الجائحة، وبعد خسارتهم الفادحة ب3000 مليار دولار أميركيّ، فإنهم يحاولون الضغط باتجاه كسب المال من صناديق سواهم بمحاولة ترميم اقتصادهم كما كما يحدث الآن على سبيل المثال لا الحصر في السعوديّة في مسالة سحب صواريخ الباتريوت حيث يضغط ترامب على الأمير محمد بن سلمان بابتزاز شديد حتى يدفع مالاً مقابل اسبقاء الصواريخ على أرض المملكة.
لبنان بهذا المشهد الواضح هو ساحة النزاع الكبرى. إفقار لبنان وإفلاسه ماليًّا وتدميره اقتصاديًّا، ضمن مفهوميّ حرب الشبح على لبنان (الشبح يعني الدولار)، وهو مفهوم أميركيّ متشدّد، و"شفط" الأموال إلى الخارج، للاتجاه ربّما إلى مرحلة التكسير The compressor وهي المرحلة الأخيرة بالتوصيف الأميركيّ الدقيق، يهدف إلى التأكيد على:
1-أنّ لبنان معبر للأميركيين باتجاه التسوية في المنطقة لا سيما في سوريا، وبالنسبة إليهم لبنان يفترض أن يبقى ممرًّا ومستقرًّا للعبور منه إلى المنطقة.
2-شدّ الخناق على لبنان منطلق لتطويق سوريا، ويتضّح بأنّ التطويق الماليّ والاقتصاديّ للبلدين يسير بأدوات داخليّة هنا وهناك، وتتجلّى قيمه السوداء بافتقار العقول هنا وهناك إلى ابتداع حلول منقذة تكسر حلقة الطوق وتسيّل الأموال هنا وهناك.
3-لبنان بالنسبة إليهم طريق لمحق ما يسمّونه "النظام السوريّ". إسقاط الرئيس بشّار الأسد لا يزال هدفًا استراتيجيًّا، وهم من خلال وجودهم في منطقة شرق الفرات ومن تطويقهم للبنان يفرضون تلك الرؤية، ولا يأبهون للنصر المحقق على ثلاثة أرباع المساحة السوريّة. الحرب الاقتصاديّة والماليّة تتجاوز لبنان وإن تستهلكه لأن الهدف الاستراتيجيّ عندهم إسقاط الأسد ليعمدوا إلى طرح بدائلهم في اللحظات التسووية المقبلة، إن بقي الأميركيون على متانتهم وقوتهم.
4-التضييق على الدور الروسيّ المتعاظم في المنطقة إنطلاقًا من سوريا. لا سيّما أن الروس عاكفون على رعاية الحلول والمسائل بطرائق عادلة.
5-قطع الطريق على إمكانية انسياب الصين تجاريًّا وماليًّا نحو بلدان المشرق العربيّ، لا سيّما ان الأميركيين عامدون على تسعير الخلاف معها وهو قد بلغ حدود الصراع والنزاع.
في مقابل ذلك هل نستسلم للإرادة الأميركيّة المستهلكة للبنان، وهل نعرف ماذا يريد الأميركيون بالفعل وليس بالقول؟
دايفيد شينكر مدمن هذه المرحلة على الإطلالة الأسبوعيّة في المسألة اللبنانيّة ليطلق تحذيراته، ويتصرّف وكأنه الوصيّ على الحكومة اللبنانيّة بتوجهاتها وسلوكياتها، أو كأنّه المندوب الأميركيّ على لبنان وما من أحد يتوجّه إليه بتحذير شديد اللهجة تحت ستار أنّه يتدخّل بما لا يعنيه. ما يؤلم بأنّ ثمّة استلذاذًا سائدًا على عقول بعض الساسة المدمنين على ثقافة الوصايات والولايات، وهي تتحرّك في أحشائهم وعقولهم ودمائهم جينيًّا Genetic ويعتمدونها في حراكهم ملتقطين الكلمات النازلة عليهم من الوصيّ الجديد الذي يقود الحرب علينا بالعصب الماليّ.
ماذا يريد الأميركيون من فرض العقوبات على لبنان؟
1-يريدون ضرب كلّ من يقلق إسرائيل وجوديًّا وأمنيًّا. وهذا لعمري هدف استراتيجيّ كبير لا يزالون ملتمسين له في كلّ توجهاتهم.
2-يريدون ضرب كلّ من يعيق استثماراتهم للنفط في لبنان وبالتقاسم المطلق مع إسرائيل.
3-يريدون ضرب كلّ من يناوئ سياسة التطبيع مع إسرائيل ويعتبرون المناوئين إرهابيين ومجرمين، متجاوزين إرهاب إسرائيل وإجرامهم.
4-يريدون ضرب كلّ من ساهم في تأكيد النصر في سوريا، ولا يزال يجاهد في المحافظة على النصر.
5-يريدون ضرب كلّ من يشدّد على عودة النازحين السوريين إلى بلادهم . فالنازحون ليسوا اوراقًا محروقة، بل استراتيجيّة يستخدمها الأميركيون بقوّة وهم مصرّون على دمجهم في المجتمع اللبنانيّ.
أمام هذا التطويق الممارَس علينا وبأذرع داخليّة عميلة، الحكومة اللبنانيّة امام أمر من أمرين:
1-إستكمال التفاوض مع صندوق النقد الدوليّ ولكن بذهنيّة سياديّة. ذلك أن دايفيد شينكر يستعمل لغة الضغط على الحكومة قائلاً: سننتظر سلوكيات الحكومة وماذا ستقدّم حينئذ نرى إذا كنا سنساعدها أو لا". إنه ينظر إليها باستحقار شديد، ومن زاوية الاستحقار يفرض شروطه، ومنها النأي خارجًا بحزب لبنانيّ ومشرقيّ وازن وكبير خارج الحكومة، وزجّ الدولة إلى الاحتراب معه. وبتقدير كثيرين فإن نتيجة التفاوض مع الصندوق لن تكون طيبة لكونهم لن يفرجوا على الأموال إلاّ بحدود ضيّقة جدًّا، أي إنهم سيكونون الولاة أو المندوبين الساميين والأوصياء على لبنان بماليته وسياسته. فهل يقبل لبنان بهذا الشرط؟
2-أو الاتجاه نحو الشرق، وهذا ما كتبنا عنه ونوّه به كثيرون. من الطبيعيّ هنا أن يجد لبنان نفسه مستكينًا ضمن بيئته الطبيعيّة، اي البيئة المشرقيّة. لقد أوضحنا بأنّ لبنان وسوريا يعيشان قيم التطويق الاقتصاديّ والماليّ. والأميركيون عاكفون على ترسيخ تلك القيم في ظل صمت دوليّ مطلق ومطبِق. لذلك بات لزامًا هنا ومن زاوية العودة إلى الذات والجذور والأرض، والعودة إلى الرؤيا المشرقيّة التي بثّها العماد ميشال عون قبل الرئاسة وهو مؤتمن عليها في الرئاسة ويدفع الأثمان بسبب مبدأ الائتمان، أن نتجّه وعلى الرغم من الحصار نحو دمشق وبقوّة وبعيدًا عن الخوف من الردود الداخليّة السمجة والممجوجة، فهي للتهويل فقط ليس إلاّ، وبعيدًا من خوفنا من الأميركيين وتطويقهم الماليّ لنا. بين لبنان وسوريا تاريخ وجغرافيا وحياة واحدة بين عائلاتنا، (ثلاثة أرباع الحدود تربط لبنان بسوريا والربع مع فلسطين المحتلّة، فهل نختنق). فلسطين وسوريا ولبنان حوض المسيحيّة المشرقيّة من الزاوية المسيحيّة، وهو مدى للعيش الواحد والكريم بين المسيحيين والمسلمين. الاتجاه نحو سوريا خيار استراتيجيّ كبير، وتحدّ خطير لمن يقودنا نحو الاختناق الموت. السوق المشرقيّة المشتركة تبدأ بتأكيد العلاقة بين لبنان وسوريا على أسس ثابنة وراسخة وسيدة، فهذا ينقذنا معًا ويضعنا في مواجهة واحدة لمن يحاول أن يرمينا في وهاد الجحيم.
شرط خلاصنا إثنان:
1-إصلاحات اقتصادية سريعة بالتحرر من الاقتصاد الريعيّ إلى اقتصاد الأرض والتصاعد من منتوجها نحو ترسيخ العمل الصناعي والحرفيّ والثقافيّ والنشاط السياحيّ بأبعادها الدينيّة واللاستشفائية والبيئيّة. هذا التكوين الأوّل المطلوب سياديًّا وإراديًّا.
2-فتح السوق المشرقيّة المشتركة والتي تضمّ في مرحلتها الأولى لبنان وسوريا والعراق بأعمال مشتركة بين حكومات تلك البلدان وبجهد مشترك من رجال اعمال قادرين على الاندراج فيها بعيدًا من الخوف والرعب، وهو التكوين الثاني المطلوب بدوره إراديًّا وسياديًّا.
خلاص لبنان يتمّ بتلاقي التكوينين ضمن جوهر واحد. وإلاّ فالأزمة طويلة إلى ما بعد الانتخابات الأميركيّة، وإلى أن يتمّ الجلوس على الطاولة للاتفاق علينا وأخذنا إلى تكوينهم البعيد كلّ البعد عن هويتنا وذاتنا الواحدة والمشتركة.