انطلق في بيروت أمس، أسبوعُ الاختبارات الصعبة على المساريْن المتوازييْن اللذين باتا يحكمان الواقع الداخلي، أوّلهما «كورونا» الماكِر الذي يحبسُ أنفاس اللبنانيين بترنُّحه بين أرقام معلنةٍ مخيفة وأخرى مَخْفية «ضائعة» أو على طريقة «الخلايا النائمة»، وثانيهما جولاتُ التفاوض الجديدة مع صندوق النقد الدولي «الماهِر» في تفكيك شيفرة مدى جدية «بلاد الأرز» في تطبيق خطة الإصلاح التي طلبتْ على أساسها مساعدة الـIMF وأهليّة برنامج التعافي المالي ليشكّل خريطةَ الطريقِ للحصول على تمويلٍ بات يسابق مؤشراتِ «الموت السريري» للاقتصاد وانزلاق فئاتٍ إضافية إلى خط الفقر واتساع أحزمة البؤس.
ولم يكن ممكناً القفزُ فوق التردّد الكبير الذي طَبَع قرار «معاودة فتْح البلد» جزئياً ابتداءً من يوم أمس «استناداً للخطة المرحلية» التي توصل إلى رفْع كل القيود المتعلقة باحتواء «كورونا» بحلول حزيران/ يونيو، حتى بدا لبنان وكأنه «خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء» في هذه النقْلة التي عاكستْ بالكامل الكلامَ التمهيدي لرئيس الحكومة حسان دياب (أعلن القرار عصر الأحد) عن «أننا في مرحلة خطرة وحساسة جداً» وأعطتْ إشاراتٍ بأن ثمة أبعاداً ضاغطةً (اقتصادية بالدرجة الأولى) أَمْلَتْ رجحانَ كفّة الدافعين في اتجاه التكيّف مع «كوفيد 19» من ضمن ما يشبه «التمرين» لإمكان اعتماد استراتيجية «مناعة القطيع» من دون إعلانها.
وفي حين كانت مختلف المناطق اللبنانية تستعيد حركةً شبه طبيعية مع خروق نافرة لإجراءات الأمان في أكثر من نقطة وتأكيد وزير الداخلية محمد فهمي أنه «في ضوء المنحى الذي سيسلكه الفيروس خلال الأيام المقبلة، يتقرّر اذا كان سيتمّ اعتماد مزيد من المرونة في الإجراءات، أم سيُعاود التشدّد في تطبيقها»، شخصت الأنظار على أرقام الإصابات في أول يوم من تخفيف قيود «كورونا» وسط خشية من أن لبنان دخل مرحلةً من المخاطرة الكبرى التي يزيد من منسوبها استمرار رحلات الإجلاء من الخارج والتي ستكون نقلت بحلول 24 الجاري (وفي عشرة أيام) نحو 11 ألف لبناني يشكّلون «خاصرة رخوة» كبرى في «خطوط الدفاع» ضدّ الفيروس المخترَقة أصلاً من بقعٍ جديدة برزت في الأيام الماضية وسيتم التعاطي معها موْضعياً وفق سياسة العزل عند الضرورة.
ولم يحجب الخطرُ الصحي الاهتمامَ الكبير بملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي التي عُقدت جولتُها الثانية أمس، عبر تقنية الفيديو، على وهْج تشققاتٍ عميقة في جبهة المُفاوِض اللبناني تشكّل انعكاساً للخلاف بين الحكومة والقطاع المصرفي على مرتكزات خطة الإصلاح والمقاربة التي اعتُمدت لتحديد الخسائر المالية على مستوى الخزينة والبنك المركزي والمصارف التجارية والتي بدت أقرب إلى «إعلان إفلاسٍ» من ضمن قرارٍ إشكالي للحكومة بالدفْع نحو إعادة هيكلة على طريقة «الأمر الواقع» تُفْضي إلى خفْض عدد المصارف (49) إلى النصف وفي الوقت نفسه إدخال 5 مصارف جديدة إلى السوق.
وساد ترقب ثقيل لمآل جلسة التفاوض التي شهدت أول مشاركة شخصية لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي كانت كل المؤشرات تدلّ على أنه سيعرض في الاجتماع وجهة نظره المغايرة لمضمون خطة الإصلاح لجهة احتساب خسائر مصرف لبنان والفجوة المالية، الأمر الذي سيكرّس مشهدية «وفدٍ بلسانيْن» التي تشكّل فجوة كبرى في مفاوضاتٍ هي أساساً بالغة الدقة ويَعتبر الـIMF أن مشاركة «المركزي» – مع استقلالية بقراراته – فيها محورية وشرْطية لمواصلة التفاوض الذي لمّحت تقارير إلى ان الصندوق قد يطلب تعليقه بانتظار توحيد الأرقام.
واستوقفت أوساطاً مطلعة مؤشراتٌ بدتْ أنها على طريقة التمهيد أو تبادُل رمي كرة الاتهام مسبقاً حول المسؤولية عن فشل المفاوضات مع صندوق النقد، وهو ما عبّرت عنه نقطتان:
أوّلاهما تحميل حاكم «المركزي» عبر تقارير إعلامية مسؤولية تظهير الانقسام في الجانب اللبناني ومواجهته للوفد الحكومي في الاجتماعات مع الصندوق، في حين أن الأخير سبق أن حدّد شروطاً رئيسية لأي توافق مع لبنان، وأبرزها إصلاحاتٌ قطاعية مثل الكهرباء والتشكيلات القضائية وضبْط المعابر غير الشرعية والشرعية وتحرير سعر صرف الليرة، وهي شروط ليس فقط أن الحكومة، التي أنهت امس فترة المئة يوم بعد نيْلها الثقة، ما زالت بعيدة عنها ولكنها تندفع عكْسها تماماً.
وفي رأي هذه الأوساط أن الحكومة التي «تجرّأت» على بدء التفاوض مع صندوق النقد قبل بت تعيينات نواب حكام مصرف لبنان (وسائر التعيينات المالية)، تمعن في «التلهي» بحروب صغيرة مثل «المعركة» التي اتخذت أبعاداً طائفية أنذرتْ بترك تداعيات في قلب الحكومة نفسها على تعيين محافظ جديد لمدينة بيروت بدَل زياد شبيب، وسط علامات استفهام حول خفايا هذه القضية التي راوحتْ قراءاتها بين اعتبارها محاولة لشدّ عصب رئيس الوزراء حسان دياب الذي كان يصرّ على تعيين مستشارته بترا خوري (قبل انسحابها أمس وذلك خلافاً لرغبة المرجعية الروحية الأرثوذكسية) أو لـ«حرق» الأخيرة وإيصال مرشح تسوية يريده «التيار الوطني الحر».
والنقطة الثانية ارتسام ملامح «خطة بديلة» عن صندوق النقد يجري نسْجها تحت عنوان «السوق المشرقية» التي تحدث عنها رئيس «التيار الحر» جبران باسيل وبدا أنها على الموجة نفسها مع أبعاد دعوة الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله إلى ترتيب العلاقة مع سوريا لضخّ الحياة في الاقتصاد اللبناني، وهو ما يُعتبر «عكس سير» المسار الدولي الذي يعتمده لبنان بتوجّهه نحو الـIMF الذي يفترض أن يلاقي مؤتمر «سيدر»، علماً أن هاتين المنصتين الدوليتين ترتكزان على عناوين سياسية معلنة وضمنية مفتاحها النأي بالنفس وقرارات الشرعية الدولية.
وكان لافتاً، في موازاة اجتماع دياب مع سفراء الدول التي شاركت في «سيدر» ما كشفتْه صحيفة «النهار» عن خفض القيمة المالية للمشاريع المُعدّة في سياق المؤتمر من 11 مليار دولار الى نحو 5 مليارات، بسبب تراجع عدد من الدول عن التزاماته والأزمة التي تضرب الاقتصادات العالمية، إضافة الى «الحصار العربي والغربي على لبنان وسياسته المنحازة لمحور دون آخر».