يمكن القول ان انهماك بعض الحكومة في ملاحقة الإجراءات والتدابير المتخذة في اطار الفترة الطارئة من حال التعبئة العامة التي اعادت اللبنانيين الى الحجز المنزلي لفترة أربعة أيام تتقرر على أساس نتائجها الخطوة التالية، لم تحجب حلول ساعة الحقيقة الجدية والصعبة للحكومة كلا التي تتمثل ببدء توغل المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي الى الاستحقاقات العميقة والجوهرية. اذ ان تحريك الملفات الأكثر تأثيرا على مزاريب الهدر وتسريب بقايا القدرات المالية المتناقصة بقوة مخيفة للخزينة في الأيام الأخيرة والذي ارتبط بشكل واضح بسعي الحكومة الى إيصال رسائل عاجلة الى صندوق النقد الدولي حيال ما تعتبره جدية وحزما في سياساتها المرتبطة بتقديم خطة التعافي المالي، لم تكن اكثر من خطوات دعائية حتى الساعة، بل ان ملف الكهرباء الذي يشكل ابرز هذه الملفات واخطرها اطلاقا والذي يستقطب الاهتمام الاقصى والأول للدول المانحة للبنان، كما للمؤسسات المالية الدولية وأبرزها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، عاد ليرفع عنوانا سلبيا فوق المقاربات الحكومية لمعالجته في ظل ما جرى في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء. وثمة معطيات جادة للغاية تفيد بان ظلالا من الصدمة المتجددة ارتسمت لدى الجهات المواكبة لمفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي حيال إعادة ترك مجلس الوزراء ورقة التفاوض مع شركات انشاء المعامل الكهربائية في يد وزير الطاقة بدلا من التشبث بأصول طرح التلزيمات على دائرة المناقصات، علما ان اسقاط تمسك وزراء “التيار الوطني الحر” بإنشاء معمل في سلعاتا بالتصويت لا يغطي على هذه الصدمة المتجددة. كما ان الجهات نفسها تلفت الى ان الضجيج حول فتح ملف التهريب الى سوريا عبر الحدود اللبنانية الشرقية مع سوريا لا يزال تحت وطأة الشكوك الواسعة في ظل الحمايات المعروفة للمهربين والمعابر غير الشرعية والتي تستلزم قرارا سياسيا مختلفا اختلافا جذريا عن الإجراءات المتخذة حتى الآن. واذا كان هذان الملفان الاساسيان يشكلان طليعة المقاربات الحكومية العملية التي تحاط بكثير من الشكوك وانعدام الثقة بصدقية المعالجات، فان العنوان المالي والاقتصادي للمفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي ستتسم بالكثير من حبس الانفاس نظرا للتعقيدات والمطبات الكثيفة التي ستواجه الوفد اللبناني في مهمته الشاقة عبر المفاوضات مع الصندوق أولا على الوقائع المالية الصرفة وتاليا على المسار الإصلاحي الذي سيكون أساس استشراف النتائج وما اذا كان لبنان سيتمكن من تحقيق ما يطمح اليه ام تصح التوقعات المتشائمة بصعوبة بلوغ نتائج إيجابية.
الجولة الثانية
وتبعا للمعطيات المتوافرة من أوساط وزارة المال امس، فان ثمة جولة جديدة من المفاوضات بين الفريق اللبناني المفاوض برئاسة وزير المال غازي وزني وفريق صندوق النقد الدولي ستجري بعد ظهر الاثنين المقبل، وتبدو على قدر عال من الأهمية، اذ يرجح ان ينضم الى الفريق اللبناني حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي لم يشارك شخصيا في الجولة الأولى من المفاوضات. وقد رسم تصريح لوزير المال الى وكالة الصحافة الفرنسية امس عناوين الملفات الخطيرة والمعقدة التي يرجح ان تبدأ رحلة التفاوض تشق طريقها نحو النقاش الصعب حولها. واعلن وزني في هذا السياق ان لبنان مستعد لتلبية طلب صندوق النقد الدولي بتعويم سعر صرف الليرة اللبنانية لكن بعد تلقيه الدعم الخارجي على ان يعتمد في المرحلة المقبلة سعر صرف مرن. وكشف ان صندوق النقد يطالب دائما بتحرير سعر صرف الليرة ويريد توحيد أسعار الصرف والتعويم لكن الحكومة اللبنانية طلبت مرحلة انتقالية تمر بسعر الصرف المرن قبل ان نصل الى التعويم. وأبدى وزني خشيته من تبعات عدة للتعويم الفوري بينها التدهور الكبير في سعر صرف الليرة. ولعل اللافت في كلام وزير المال أيضا انه اكد ان هيكلة المصارف ستتم خطوة بخطوة كاشفا ان في لبنان 49 مصرفا تجاريا “ومن الطبيعي ان ينخفض الرقم الى نحو النصف في المرحلة المقبلة “.
وتزامنت هذه الصورة المشدودة ماليا مع تطور لافت في ملف التلاعب بسعر الدولار المفتوح قضائيا اذ انه غداة توقيف مدير العمليات النقدية في مصرف لبنان انعقدت الهيئة الخاصة بمكافحة تبييض الأموال واتخذت قرارا برفع السرية عن العمليات التي جرت مع الصيارفة بغية تزويد المدعي العام المالي إياها. وكشف مصرف لبنان بعدما اعلن مجمل الأرقام للعمليات في شهر انه “عكس ما اشيع لم يكن هناك أي تلاعب في سوق الصرافين ناتج عن عمليات مصرف لبنان”.