في فدرالية الطوائف، لا مكان للدولة. يصبح الحديث عن التغيير مدعاة سخرية. فعلى وقع حماية المرجعيات الدينية لممثليها السياسيين، عُقد اجتماع أرثوذكسي أمس رفضاً للتدخل في شؤون الطائفة ومناصبها، في حين يناقش مجلس الوزراء استعادة قطاع الخلوي في جلسته اليوم، مقسماً إدارة الشركتين مناصفة بين الطوائف
لا تفوّت الدولة مناسبة، الا وتثبت فيها أن مملكة الطوائف أقوى من أي سلطة أخرى. وفي ظل ما يحصل، لم يعد الحديث عن مكافحة الفساد مجدياً ولا إضاعة الوقت على مناقشة قوانين لرفع الحصانة عن هذا الوزير أو ذاك الموظف. ففي الماضي القريب، منعت خطوط دار الافتاء الحمر مساءلة رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة بشأن المليارات الضائعة، وهبّت البطريركية المارونية لحماية ابنها البار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي سطا على أموال أبنائها، فيما دقّ ميتروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة ناقوس الخطر أمس، في الاجتماع الذي عقده بحضور النواب والوزراء الأرثوذكس الحاليين والسابقين وفعاليات اقتصادية رفضاً لتعيين محافظ جديد في بيروت من دون مروره في بيت طاعة الطائفة، ومن دون إجراء تغيير شامل في المحافظات كافة. يبدو الأمر سوريالياً لوهلة؛ فحتى علمانية حزب أنطون سعادة لم تثن نوابه عن تلبية نداء المطرانية وتصدّر صفوف المجتمعين «دفاعاً عن الطائفة». ومرة جديدة، قررت الدولة الانهزام أمام طائفة، من دون أن تخوض معركة. الحكومة الحالية التي تقدّم نفسها كسلطة مختلفة عن سابقاتها، لا تتجرأ على تغيير موظف من دون استرضاء مرجعيته الدينية. فعوضاً عن أن يكون مجلس الوزراء هو المكان الأنسب لمناقشة التعيينات، لجأت حكومة حسان دياب الى دار المطرانية الأرثوذكسية في بيروت لنيل المباركة على تعيين بديل لمحافظ بيروت زياد شبيب الذي انتهت ولايته. تتعلق القضية هنا ببقاء شبيب عند تعيينه في منصبه كقاض في مجلس شورى الدولة، مما يحدد له ولاية من 6 سنوات خلافاً لباقي المحافظين الذين تخلّوا عن مناصبهم لينتقلوا الى الملاك الاداري، وبالتالي يمكنهم البقاء في مناصبهم الى حين بلوغ سنّ التقاعد.
بناءً عليه، بعث دياب بوزير الداخلية محمد فهمي موفداً عنه الى المطران عودة لإبلاغه رغبته في تعيين مستشارته بترا خوري محافظة لبيروت. طريقة «الإبلاغ لا الوقوف على رأي مرجعية طائفة هذا الموقع، استفزّت المطران عودة»، بحسب مصادر المجتمعين. فمنذ عقود، لا يعيّن محافظ في بيروت إلا برضى عودة. ذلك من جهة، ومن جهة أخرى تحدث المطران خلال الاجتماع عن رفضه «تركيب» ملف للمحافظ بهدف إبعاده، ولا سيما أنه و«فور مطالبته وزير الداخلية بالإثباتات، نفى الأخير أن يكون هناك أيّ منها». ليكرر موقفه بتخيير الحكومة بين إجراء تعديل شامل لتغيير كل المحافظين المعينين في الوقت نفسه مع شبيب، أو في حال ثبوت تهم الفساد على المحافظ تحويله الى القضاء لمحاسبته لا إعادته الى السلك القضائي كجائزة ترضية، وإلا فالحل الأنسب هو بنقله من الملاك القضائي الى الملاك الاداري لمتابعة عمله كمحافظ أسوة بزملائه. واعتبر عودة أن الأرثوذكس «يعاقَبون» لكونهم «طائفة اللاطائفيين وأوائل المطالبين بالدولة المدنية». ولكن «أن تكون اللاطائفية وسيلة لمحاصصة جديدة على قاعدة «قم لأقعد محلك» فذلك مرفوض تماماً». الى جانب تعيين المحافظ، رأى المجتمعون أن «الأرثوذكس مغبونون في جميع التعيينات المسيحية». وتحدث البيان الصادر عنهم عن «إجحاف يتعرّضون له اليوم بسبب انفتاحهم ومطالبتهم الدائمة بالدولة المدنية، وهو ما كلفهم أثماناً، كحرمان المواطنين الأرثوذكس من بعض المواقع في الإدارة اللبنانية تحت ذريعة المداورة تارة وشعار تجاوز الطائفية طوراً والاستبدال حيناً». وإلى حين قيام الدولة المدنية «نؤكد تمسكنا بما يعود الى الأرثوذكس من مناصب في الدولة، طالما استمر العمل بالتوزيع المتوازن لهذه المناصب بين أبناء الطوائف والمذاهب كافة، وعملاً بأحكام الدستور. ويقتضي هذا التوازن، على سبيل المثال، أن يخصص للأرثوذكس واحد من المناصب الأربعة الأولى في الأسلاك القضائية والعسكرية والأمنية والإدارية والمالية». كما طالبوا «بإقرار مراسيم الترفيع الى الفئة الثانية في الإدارات العامة لجميع مستحقيه وملء وظائف الفئة الأولى الشاغرة وإنصاف الجميع». وختموا برفض «استبدال موظفين أرثوذكس كبار، دون سواهم، من دون أسباب وجيهة». وفي نهاية الاجتماع تمّ تكليف نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، ونائبة رئيس الحكومة، وزيرة الدفاع زينة عكر، بزيارة الرئاسات الثلاث لإبلاغهم شعور الطائفة بالغبن ومناقشة التعيينات، رغم إعلان أوساط المجتمعين عدم موافقتهم على كلام الفرزلي الذي تضمن «عبارات طائفية وأوامر بالسماح والقبول بخلاف البيان المعتدل».
في مقابل البيان، قالت مصادر أخرى أنه «تم استثناء بعض الشخصيات الأرثوذكسية من اللقاء. ووصفت المصادر هذا الاجتماع بـ«غير الموفق» في ظل الأزمات الحالية، الصحية والمالية والاقتصادية، التي تخيّم على البلاد. واعتبرت أنه «مع الاحترام للأهداف السامية، فإن التوقيت يدعو إلى الريبة والشك في النيات، فضلاً عن الاستعراضية الفارغة في زمن الطاعون». وأعربت عن خشيتها من أن يكون الاجتماع «قد انساق في موجة المعارضة المستجدة لحكومة الرئيس حسان دياب»، رغم حضور الفرزلي الذي يأتي في سياق مواقفه السابقة ضمن «اللقاء الارثوذكسي». وقالت المصادر لـ«الأخبار»: «إذا كان هذا اجتماعاً أرثوذكسياً وطنياً، فأين البطريرك والمطارنة الآخرون؟ وإذا كان بيروتياً فهو ناقص لاستثناء شخصيات بيروتية من الدعوة اليه. وإذا كان طائفياً، فهو ضد طوائف مسيحية أخرى». أما «في السياسة، فإن التوقيت غير موفق لإقحام قضية كهذه ضمن معضلة وطنية كبيرة نعيشها على كل المستويات، وفي ظل حكومة هي الأولى التي تصوّب على مجموعة الظلم والنهب في لبنان». المصادر نفسها لفتت الى أنه «لا يعقل، بالمنطق الوطني، وفي ضوء الفقر والعوز اللذين يهددان اللبنانيين، فتح معركة من أجل موقع فئة ثانية، خصوصاً أن رئيس الجمهورية لم يوقّع المرسوم بعد». وكذلك، «من المنطق الطائفي، هل نحن في صدد فتح معركة داخل الطوائف المسيحية على الحصص والمواقع؟». ولمّحت الى أن اجتماعاً كهذا «إذا سلّمنا جدلاً بأن هناك اعتداءً على حقوق الطائفة، ينبغي أن يعقد على مستوى أرثوذكسي عام، وبرعاية بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق لا مطرانية بيروت، وتُراعى فيه مصالح الأرثوذكس في كل الأقطار التي ينتشرون فيها، فلا يكون الموقف الارثوذكسي البيروتي، مثلاً، مؤذياً للارثوذكس في سوريا أو العراق أو غيرهما». ولمّحت الى أن هناك عدم رضا من البطريركية عن اللقاء. وتمنّت لو أن المجتمعين «تفرّدوا بموقف وطني في شأن الإجحاف، ويدعو في الوقت عينه الى رص الصفوف في وجه الحرب الاقتصادية والحصار، ويقف الى جانب الحكومة في مواجهتهما».
استعادة الخلوي
تعيين المحافظ وباقي المناصب الشاغرة لن يناقش في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة اليوم، فيما يفترض بالوزراء أن يبحثوا مسألة إعادة إدارة قطاع الخلوي الى كنف الدولة. وهنا أيضاً، ما كادت الفرحة تكتمل بهذا الإنجاز حتى أفسدتها مملكة الطوائف مجدداً، إذ بدأ النقاش بشأن توزيع إدارتي الشركتين على الطوائف وفقاً للطريقة التي كانت عليه سابقاً، فتذهب شركة «ميك 2» (تاتش) للطائفة الشيعية و«ميك 1» (ألفا) للطائفة المسيحية. وفيما تتلهّى الطائفتان «بحقوقهما المكتسبة على مرّ السنين»، يلازم موظفو «ميك 2 – تاتش» منازلهم من دون أن يتقاضوا رواتب شهر نيسان الماضي.
وحجة شركة زين المشغّلة هنا أنها تدفع للموظفين منذ بداية العام من دون أن تحصّل مستحقاتها من الدولة اللبنانية، والخوف اليوم ألا تتمكن من استرجاعها، فيما ثمة من يتحدث عن «استخدام الشركة للموظفين ككبش فداء في معركتها مع السلطة السياسية لتفاوض عبرهم»، علماً بأن استرداد القطاع لم يحسم بعد، فيما تنفي مصادر شركتي الاتصالات تلقيهما أي رسالة رسمية من وزير الاتصالات طلال حواط لإبلاغهما بهذا القرار. وهو ما يرجّح، وفقاً للبعض، فرضية عدم موافقة كل الأطراف السياسيين على هذا الأمر، ولا سيما أنه تم إدراجه على جدول أعمال مجلس الوزراء لمناقشته، في حين يجيز القانون تلقائياً انتقال القطاع الى الدولة فور انتهاء العقود من دون الحاجة الى أي إجراء حكومي.
جنبلاط في بعبدا
وتحت ستار «حماية الطائفة والحفاظ على السلم الأهلي في الجبل»، زار رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط رئيس الجمهورية ميشال عون في قصر بعبدا أمس. أما المواضيع التي طرحت في الجلسة، فتنقلت ما بين ضرورة «تحسين العلاقة المتوترة مع التيار الوطني الحر لما يعكسه على جوّ الجبل، خصوصا بعد حادثة البساتين». واللافت أن جنبلاط المستشرس على عمل الحكومة وأداء رئيس الجمهورية والتيار العوني قبيل ساعات، قابله أمس جنبلاط آخر غير ساع إلى تغيير الحكومة، ولا يطلب شيئاً في المقابل لنفسه، بل الحكومة هي التي وقفت على رأيه بشأن التعيينات، «فطرحت بعض الاسماء في ما يتعلق بهيئة الاسواق المالية، ونيابة رئاسة حاكمية مصرف لبنان، والشرطة القضائية». وأسف البيك لأن «دوره محصور بالدروز فقط في هذا البلد». وتحدث جنبلاط عن «الايجابية بالتوجه الى صندوق النقد الدولي لتخفيف وطأة الازمة الاقتصادية الاجتماعية». تنظيم الخلاف بين الاشتراكي والتيار الوطني الحر، قابله تنظيم مماثل للعلاقة بين رئيس مجلس الوزراء حسان دياب ورئيس مجلس النواب نبيه بري من خلال زيارة قام بها الأول الى عين التينة. ويأتي هذا اللقاء بعد مشادة الصلاحيات التي نشبت بين الرجلين خلال جلسة مجلس النواب الأخيرة التي انعقدت في قصر الأونيسكو.