لليوم الثالث بقي التصعيد سيد الموقف في الشارع، وتحوّلت زجاجات المولوتوف الحارقة من مفردات التصعيد باستهدافها فروع المصارف بما فيها المصرف المركزي الذي استهدف بالحرق فرعه في صيدا، بينما تعرّضت فروع مصارف تجارية في طرابلس والشويفات للحرق بزجاجات المولوتوف، فيما واصل الجيش والقوى الأمنية السعي للسيطرة على الموقف، بينما شهدت طرق المنية والمينا والبداوي شمالاً القطع، ومثلها طريق قصقص في بيروت وتعلبايا في البقاع، ما زاد من منسوب القلق من دخول لبنان حال الفوضى الأمنية وضياع خطط مواجهة وباء كورونا في حمى الحشود ومخاطرها. وزاد في القلق حجم التصريحات الخارجية التي تلبس ثوب الحرص على لبنان وتحذّر من العنف، بصورة لم تسمع من قبل من أصحاب التصريحات، كالخارجية الأميركية والجامعة العربية، ما فهم كتحضير سياسي وإعلامي متعمّد لمناخات تصعيد يزداد خلاله العنف.
سياسياً، هدأت نسبياً مناخات المواقف التصعيدية، التي تزامنت مع كلام رئيس الحكومة حسان دياب وما تمّ تناقله عن طرح فرضية إقالة حاكم مصرف لبنان في جلسة الحكومة الأسبوع الماضي، ما أوحى بأن أمر التصعيد كان مرتبطاً بحملة استباقية خاض خلالها أصحابها بسقوف عالية حرب حماية حاكم المصرف، داخلياً وخارجياً، أو أن الاتصالات السياسية التي جرت خلال اليومين الماضيين وشملت قيادات محلية وسفارات ودبلوماسيين، قد أكدت تراجع حظوظ استبدال سلامة، وغياب إجماع الأغلبية النيابية حول هذا الملف، فطمأنت الذين هبّوا للدفاع عنه بأن الأمر قد طوي وأن لا مبرر للمزيد من التصعيد.
على الجبهة الحكومية، اجتماع اليوم في قصر بعبدا لحسم الخطة المالية الاقتصادية، التي تمّ تسريب نصوص منسوبة إليها، نفت الحكومة صحتها بعدما تحوّلت مادة لتعليقات سلبية، فيما تضمنته من إشارة لاقتطاعات من الودائع بمسمّيات جديدة. وكانت مصادر حكومية قد أشارت إلى أن الخطة التي ستقر اليوم هي حصيلة تشاور بين مكوّنات الحكومة السياسية والنيابية، وليست مجرد حصيلة لعمل الخبراء والاستشاريين، مستعيدة ما قاله نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم عن خطة تفصيلية اقتصادياً لدى الحكومة، منوّهاً بما فيها، وما نقل عن وزير خارجية فرنسا ووزير ماليتها من إشادة بعناوين الخطة التي تبلغتها هيئات مالية فرنسية متابعة لوضع لبنان، من ضمن متابعتها لمؤتمر سيدر الذي عاد الحديث عنه بعد الاتصالات اللبنانية الفرنسية.
الكلام لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة كان بعد انتظار ما سيقوله وما سيحمله من أجوبة للبنانيين. وفي الشق الذي خصصه سلامة للرد على رئيس الحكومة، قالت مصادر حكومية إن الرئيس دياب يفضل التريث في التعليق، بانتظار دراسة كلام سلامة، وربما يعلق في مستهلّ جلسة الحكومة اليوم، بينما الشق المتعلق باللبنانيين، الذي طمأن فيه سلامة لمصير الودائع، ولتمسكه بالحفاظ على سعر الصرف فقد كانت أغلب التعليقات سلبية لجهة عدم اقتناعهم بما قاله سلامة، لأنه لم يقدّم لهم توقيتاً معيناً أو آلية محددة يمكن معهما أن تعود ودائعهم متاحة لهم، أو يعود الاستقرار إلى سوق صرف الدولار.
مصادر متابعة علقت على كلام سلامة عن عدم مسوؤليته عن الأزمة، لأن المصرف موّل الدولة، ومسؤولي الدولة هم مَن يتحمّل المسؤولية عن الإنفاق وعن الهدر وعن عدم الإصلاح، فهو وفر الأموال وليس من أنفقها، فقالت المصادر، إن سلامة كان قبطان سفينة المال والنقد لقرابة ثلاثة عقود، والقبطان الذي يقود السفينة للغرق ولو ذهب ضحية الغرق يبقى مسؤولاً. وهذا ما لم يُجِب عليه سلامة، فهل كانت قيادته للملف المالي والنقدي صحيحة في توقعاتها واحتياطياتها وتنبهها للمخاطر، وإن كان ذلك فلمَ وقعت الواقعة؟ وإن كان التحذير من المخاطر للمسؤولين ودعوتهم لتغيير المسارات فأين هي الوثائق التي تخاطب بها حاكم المصرف معهم، وتظهره يقرع جرس الإنذار، ونحن لم نقع فجأة كحال الذين وقع الركود عليهم بداعي تفشي كورونا؟ وهو في حديثه يقول إن إقدامه عام 2016 على الهندسات المالية كان لشراء الوقت لأنه استشعر الخطر، فماذا كانت خطته للخروج من الخطر، لأن سيدر يوفر أموالاً تشتري المزيد من الوقت بكمية أكبر وكلفة أقلّ من الهندسات، لكن ما هو الحل، لردم الفجوة في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، في ظل شلل إنتاجي ناجم عن ارتفاع الفوائد، وزيادة في الاستهلاك ناتجة عن زيادة وهمية للقدرة الشرائية بسبب تثبيت سعر الصرف بصورة مفتعلة، وفي ظل معالجة الدين بالمزيد من الدين وارتفاع الفوائد بالمزيد من رفع الفوائد؟
ووصفت مصادر سياسيّة واقتصاديّة خطاب حاكم مصرف لبنان بأنه مرافعة مالية واقتصادية ونقدية عن ثلاثة عقود سابقة للدفاع عن نفسه، بعدما بات في قفص الاتهام الرسمي والشعبي، كمسؤول عما وصلت اليه الاوضاع.
ولفتت مصادر نيابية لـ”البناء” الى أن “سلامة لم يأتِ بجديد ولم يطرح اقتراحات للخروج من الأزمة ولم يوضح مصير الودائع وحقيقة الوضع في مصرف لبنان وفي المصارف وأسباب ارتفاع سعر صرف الدولار الى أعلى معدلاته”، موضحة ان “الأرقام التي قدمها كانت معروفة لدى المعنيين”، ولفتت الى أن “تحميل سلامة المسؤولية للحكومات المتعاقبة والسياسات المالية والاقتصادية والخلافات السياسية يؤكد بأنه شريك في ما آلت اليه الأمور المالية والنقدية والمصرفية في البلد”، مشيرة الى أنه “حتى قانون النقد والتسليف لا يلزم مصرف لبنان بتمويل الدولة، ولذلك كان عليه أقله تحذير الدولة من نتائج وسلبيات تلك السياسات”.
وتوقف خبراء ومتخصّصون في الشؤون المالية والنقدية حول بعض النقاط التي وردت في كلام سلامة: أولاً قوله إن الودائع موجودة في المصارف ويستطيع المودعون التصرف بها، فيما يتعرّض أغلب المودعين للإذلال على ابواب المصارف لسحب أموالهم ولا يستطيعون الى جانب المعلومات التي تفيد عن تحويلات عبر المصارف الى الخارج بمليارات الدولارات.
أما حديث الحاكم عن 56 مليار دولار كلفة الاستيراد من 2015 الى 2020 ومنها 4 مليارات سنوياً لم تدخل الى الاقتصاد القومي يدعو الى الاستغراب. وهذا سببه احتمالين: إما تهرّب جمركيّ وإما تهريب مواد وبضائع من لبنان الى سوريا.
وأيّد الخبراء كلام الحاكم بأن مصرف لبنان موّل إنفاق الحكومات السابقة وعجزها، وبالتالي على مؤسسات الدولة ورؤساء الحكومات ووزراء المال السابقين أن يكشفوا أين أنفقت هذه الأموال؟ لكن الخبراء يشيرون الى انه كان على سلامة ان يرفع البطاقة الحمراء في وجه الحكومات ويقدّم استقالته إذا كان صادقاً أنه ليس شريكاً في سياسات الحكومات! ودعا الخبراء الى التدقيق في أرقام مصرف لبنان وكامل مؤسسات الدولة. وعن التحرير التدريجي لسعر الصرف لفت الخبراء إلى أن “تغطية الليرة يرتّب على الدولة كلفة باهظة ولا مفرّ من تحرير سعر الصرف، لكن يجب تحديد السعر عند نقطة معينة للحفاظ على القدرة الشرائية للمداخيل لا سيما بالليرة اللبنانية”.
وعن المنصة الالكترونيّة لتحديد سعر الصرف لفتت الى أن “الهدف منها السيطرة على سعر الصرف، وبالتالي يصبح المركزي صانع السوق وليس الصرافين، لكن لا يستطيع المركزي ذلك إلا إذا كان يملك كتلة نقدية بالدولار للتدخل عارضاً الدولار وشارياً لليرة وإلا تبقى اليد الطولى للصرافين والمافيات والسوق السوداء”.
ونفى الخبراء “التهديدات بلجوء الولايات المتحدة الأميركية لاستخدام احتياطات الذهب اللبناني الموجود في أميركا، لكن الخطورة تكمن في توقف النظام المصرفي العالمي والمصارف المراسلة عن التعامل مع النظام المصرفي اللبناني”.
وكان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لفت الى أن “مصرف لبنان لم يكلف الدولة اللبنانية ولا ليرة، بل كان يسجل أرباحاً ويحولها إلى الدولة اللبنانية وساهم بتخفيض دين الدولة في باريس 2 واستعملنا فروقات الذهب في مراحل معينة لإطفاء الدين”.
وقال: “نحن ساهمنا بتخفيض كلفة الدين العام بإقراض الدولة بفوائد متدنية، وفي الوقت عينه لدينا مهام أخرى وهي تأمين تمويل القطاع العام بفوائد مقبولة. وهذا يولد خسائر لمصرف لبنان. إذا لم يمول البنك المركزي الدولة كيف كانت ستؤمن المعاشات؟ كيف تأتي بالكهرباء؟ نحن لم نموّل وحدنا الدولة بل جزءاً منه، القطاع المصرفي موّل، والمؤسسات موّلت، ومؤتمرات باريس موّلت الدولة. اضطررنا للقيام بالهندسات المالية لكي يكسب لبنان الوقت، ولأنه كان هناك وعود بالإصلاح، لكن هذه الوعود لم تترجم لأسباب سياسية”.
وقال: “المصرف المركزي مول الدولة، لكنه لم يصرف هو الأموال، لذلك يجب أن نعرف مَن صرف هذه الأموال وهناك مؤسسات دستورية وإدارية لديها مهمة الكشف عن كيفية الإنفاق”، مضيفاً: “استطاع مصرف لبنان بالرغم من الصعوبات أن يحافظ على استقرار سعر الصرف حتى اليوم ويستفيد من ذلك اللبنانيون في عدة أمور”. وأكد أن “التطمينات التي أثرناها كانت صادقة ونابعة من إرادتنا في المساهمة بحياة كريمة للبنانيين”. وأشار الى أن “التخلّف عن دفع مستحقات الـ”يوروبوند” ومع فيروس كورونا، وبالرغم من كل ذلك بقي النظام يقف على رجليه. نحن نطمئن اللبنانيين ونؤكد أن الودائع موجودة وهي تستعمل”. وقال: “لم ولن نفلس المصارف وذلك من أجل المودعين، كما طلبنا منها زيادة رأس المال، وكل المصارف التزمت وتحاول تنفيذ الأمر بسرعة”.
وبحسب المعلومات فقد سأل الوزراء خلال جلسة مجلس الوزراء التي عقدت في السرايا الحكومية أمس، رئيس الحكومة حسان دياب عن تعليقه على كلمة سلامة، فأجابهم “خلّونا نتريّث شوي” لم أسمع كلمة سلامة كلها.
وعلّق دياب على ما يحصل في الشارع بالقول: “انتفاضة الناس ضد الفساد والفاسدين الذين أوصلوا البلد إلى هذا الانهيار، هي انتفاضة طبيعية، لكن الشغب الذي يحصل، ومحاولة وضع الناس ضد الجيش اللبناني، هي مؤشرات على خطة خبيثة”. ونوّه دياب “بالحكمة التي يتصرّف بها الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي والأجهزة الأمنية، وبالانضباط الذي يتحلّون به، على الرغم من التحدّي الخطير الذي يواجهونه. وأتمنى عليهم أن يحافظوا على هذا المستوى من الأداء، لأن هؤلاء الناس هم في النهاية أهلنا وأولادنا”. واعتبر أنه “ليس غريباً أن ينزل الناس إلى الشارع حتى يرفعوا صوتهم. لكن الغريب أن هناك جهة، أو جهات، تحاول التحريض وركوب الموجة، وتشوّه التحرّكات الشعبية، وتحرق البلد، ما يحصل غير بريء، هناك تدمير ممنهج ومدروس للمؤسسات. هناك مَن يسعى للفتنة بين الجيش والناس. وهناك مَن يسرق صرخة الناس الصادقين. وهناك مَن يتعمّد حرق وتدمير الشوارع. هناك من يريد الفوضى ويسعى إليها لأن الفوضى تحميه ويستفيد منها”.
وكشف دياب أننا “لدينا تقارير كاملة عن الجهات التي تحرّض على الشغب، والأجهزة عندها أسماء كل الأشخاص الذين يحرقون المؤسسات والمحلات ويدمّرون الأملاك العامة والخاصة، وسيتم تحويلهم إلى القضاء. إذا استمرّت الجهات بالتحريض، سنقول الأشياء بأسمائها. نحن حريصون في الوقت الحاضر على معالجة الأزمات المالية والمعيشية والاجتماعية، لكن الذي يحصل يزيد من معاناة الناس. هناك من عنده رغبة أن يجوع الناس أكثر”.
وأنهى مجلس الوزراء البحث في الخطة المالية والنقدية التي تشكل الأساس للخطة الإصلاحية الشاملة للحكومة لتعرض في جلسة مجلس الوزراء اليوم في بعبدا.
وفيما أفيد أن المجلس سيتجه الى التصويت اليوم على موضوع الاقتطاع 2 في المئة من الودائع نبّهت مصادر نيابية في حديث لـ”البناء” إلى أن مشروعي bail in وhair cut سرقة واضحة للودائع. وأوضحت أن أي “اتجاه حكومي لإقرارها لا سيما للودائع التي تقلّ عن مليون دولار هو خطوة في المجهول وغير عادلة”، وأكدت بأن “مشروع الاقتطاع من الودائع لن يمر في المجلس النيابي لوجود كتل عدة لا توافق عليه الى جانب معارضة عدد من الوزراء في الحكومة”. وتساءلت: “كيف يمكن تحويل وديعة الى أسهم في مصرف. وهذا المصرف على شفير الإفلاس؟ الأمر الذي يرتّب على العميل مسؤوليات قانونية وشراكة مالية في الخسائر”. وأفيد عن تضارب في المعلومات لجهة إمكانية التصويت اليوم في مجلس الوزراء على اقتطاع 2 في المئة من أموال المودعين التي تفوق الـ500 ألف دولار.
وامس اعلن المكتب الإعلامي في رئاسة الحكومة في بيان “إن الورقة التي تداولتها بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي مدعية أنها خطة الحكومة المالية، هي مشروع قديم طرأت عليه تعديلات كثيرة، وبالتالي ليست الخطة التي يناقشها مجلس الوزراء غداً (اليوم) الخميس”.
وغداة اتصال دياب ووزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان وبعيد لقائه السفيرة الاميركية، عولت مصادر السرايا الحكومية على إعلان وزير الخارجية نية فرنسا دعم لبنان عبر مؤتمر دولي. وعن اجتماع السفيرة الأميركية برئيس الحكومة أوضحت المصادر أنه كان مثمراً وموقفها من أعمال الشغب بالتظاهرات المحقة أتى متفهماً لموقف الحكومة.
في غضون ذلك، تواصلت التحركات الشعبية والاعمال العنفية في عدد من المناطق لا سيما الهجمات على عدد كبير من المصارف وإلقاء قنابل المولوتوف على مصرف لبنان في صيدا وطرابلس كما أقدم مجهولون على إلقاء قنابل مولوتوف على مبنى «بنك بيبلوس» فرع الشويفات، وعمد محتجون الى قطع طرقات قصقص وكورنيش المزرعة وجسر الرينغ والنبطية والضبيه وشهدت بعض المناطق مواجهات مع الجيش اللبناني والقوى الأمنية.
على صعيد آخر، واصل الصرافون إقفال محالهم، وأشارت «نقابة الصرافين في لبنان» في بيان، أن «مؤسسات الصرافة تستمرّ في إضرابها المفتوح حتى إطلاق الصرافين القانونيين وفتح محالهم ولا عودة إلى السوق من دون زملاء لنا في المهنة، ظلمتهم السلطة واتهمتهم بما ليس لها هي قدرة على معالجته».